German
English
Turkish
French
Italian
Spanish
Russian
Indonesian
Urdu
Arabic
Persian

محمد والإيمان المسيحي

أولا: تساؤلات المسلمين

يعترف الإسلام بجميع الأنبياء. حتما يميز بينهم، فيرى البعض أعلى شأنا من الآخرين، إلا أنه يعتبرهم جميعا يحملون الحقيقة نفسها والرسالة نفسها. كذلك يقر الإسلام إن يسوع (عيسى) أحد الأنبياء.

هل يعترف المسيحيون، مثل المسلمين، بجميع الأنبياء، بمن فيهم محمد؟

ثانيا: نظرة المسلمين

 

النظرة الإجمالية

يأتي القرآن على ذكر عدد كبير من الأنبياء الذين أرسلهم الله عبر التاريخ واحدا تلو الآخر. ويسوع (عيسى) أحد أعظمهم (سورة البقرة 136، 253؛ سورة آل عمران، 84)، إلا أن سلسلة هؤلاء الرسل اكتملت بنبوة محمد خاتم الأنبياء (سورة الأحزاب 40). يرى بالتالي الإيمان الإسلامي في الوحي القرآني معيار الحق في شتى القضايا الدينية.

ويشعر المسلمون بالمهانة عندما ينكر المسيحيون نبوة محمد. لا بل يشعرون أن المسيحيين، بإنكارهم نبوة محمد الذي اصطفاه الله ليوحى إليه القرآن ويبشر به للبشرية جمعاء، إنما ينكرون قيمة الإسلام الدينية والروحية والروحانية: ينكرون الممارسات الدينية الإسلامية الحية عموما وعلة وجود شركائهم المسلمين في الحوار خاصة. يعيش المسلمون هذا الرفض لنبوة محمد على أنه إهانة لهذه الشخصية التي تربوا على احترامها ومحبتها منذ نعومة أظفارهم. ويزداد الطين بلّة عندما يكون المتحاور عالما بالأحكام السلبية التي سادت طوال حقبات طويلة من التاريخ في الكتابات واللاهوت المسيحي ضد محمد الذي ينعت أحيانا بالكاذب والمخادع.

النظرة المفصلة

يوضح القرآن منذ البدء أنه يدعو بنفس دعوة التوحيد التي أوحى بها الله من قبل إلى الأنبياء السابقين لمحمد، لكن فيه، جاءت الدعوة بـ"لسان عربي مبين". ويذكر القرآن أسماء معظم هؤلاء الأنبياء الذين عهدناهم في الكتاب المقدس. ففي بالبدء كان آدم ثم إدريس ونوح وإبراهيم وإسحق وإسماعيل ولوط ويعقوب ويوسف وشعيب (يترو) وموسى وهارون وداود وسليمان وإليا، واليشاع ويونان وأيوب وزكريا وابنه يحي (يوحنا المعمدان) ويسوع (عيسى) ابن مريم. (وإن كانت مريم لا تعد نبيَّه في القرآن ولا يعتبرها المسلمون كذلك، إلا أنهم يكنون لها جزيل الاحترام والتقدير، وهي المرأة الوحيدة التي ذكر اسمها في القرآن صراحة. وخلا إليا وأليشاع وأشعيا ويونان وموسى (في بعض المناسبات)، لا تعد في العادة هذه الشخصيات المذكورة في القرآن أنبياء حسب الكتاب المقدس. ومن ناحية أخرى فإن أنبياء العهد القديم الأربعة الكبار، والإثني عشر الصغار لم يرد اسمهم في القرآن باستثناء يونان الذي، لم يذكر إلا في سياق قصة ابتلاع الحوت إياه. يأتي كذلك القرآن على ذكر النبي ذو كفل (الذي يُعتقد بأنه حزقيال) الوارد اسمه في الكتاب المقدس. ورد كذلك في القرآن اسم أنبياء غير معروفين في الكتاب المقدس مثل هود بني عاد وصالح بني ثمود.ضمن هؤلاء، هناك ثلاثة يتناولهم القرآن بتفصيل خاص. يمثلون الشخصيات المركزية في سياقات قصصية عديدة في القرآن. منها ما يذكر في بعض المقاطع من الكتاب المقدس، ومنها ما يختلف عنه تماما.

فعلى سبيل المثال، ترد قصة إبراهيم، الذي أطاع الله بأن ضحى بابنه، في كل من القرآن والكتاب المقدس. لم يرد اسم هذا الابن في القرآن، لكن يجمع المسلمون على الاعتقاد بأنه إسماعيل وليس إسحق كما ورد في العهد القديم. وفي القرآن أيضا كان إبراهيم يُحيي ويرحب بالملائكة الذين أرسلهم الله إليه. هو القدوة والمثال الأعلى لصورة المؤمن بإله واحد، فهو من طهر عبادة المكيين من الوثنية ووضع مع ابنه إسماعيل حجر الأساس للكعبة. يتميز بالتالي إبراهيم عن غيره من الأنبياء، بأنه رسم معالم الصلاة وبيّن جوهر الحج وروحه.

أما موسى فقد أُنقذ من الغرق في مياه النيل وتربى في بلاط فرعون مصر. وحصل لاحقا – مع أخيه هارون – على إذن لخروج قومه من مصر. وبعد أن عبروا البحر الأحمر على اليابسة، خاطب الله موسى (الذي عرف بكليم الله نسبة لذلك) ثم أوحى إليه التوراة (الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم).

أما مريم العذراء، فقد ولدت يسوع (عيسى) المسيح بمعجزة (تحت شجرة نخيل في الصحراء). فتلقى هذا الأخير من ربه الإنجيل (وهو كتاب واحد) ودعا بني إسرائيل إلى التوحيد، وجرت على يديه معجزات كثيرة (منها: نفح الحياة في طائر مصنوع من الطين، وكشف الأفكار المحجوبة، وشفاء الأبرص والمكفوف، وإقامة الموتى). واجه يسوع (عيسى) عداوة اليهود الذين ادعوا بأنهم صلبوه، لكنهم توهموا ذلك لأن الله رفعه إليه قبل أن يتسنى لهم تنفيذ خطتهـم. لا يزال يسوع (عيسى) حيا، وسينزل في آخر الزمان ليكون نذيرا يمهد الطريق للقيامة، ويبشر بأن الإسلام هو دين الحق. كما تنبأ يسوع (عيسى) خلال حياته بنبي يأتي من بعده اسمه أحمد وهو آخر الأنبياء [سورة الصف:6] (وأحمد يساوي اسم محمد). ويسوع (عيسى) "كلمة الله" و"روح الله"، ولكنه ليس ابن الله ولا الله نفسه.

وأعظم الأنبياء محمد نفسه، "خاتم الأنبياء". ولد في مكة 570 سنة بعد المسيح. وعندما بلغ الأربعين من عمره، تلقى هذا التاجر الناجح الوحي الذي أمره أن يصدع بدعوته، وأن يبشر ما يوحيه الله إليه. جُمعت كلماته في القرآن باعتبارها وحيا مباشرا تلقاه من اللوح المحفوظ الذي في السماء. وفي 622 م هاجر محمدإلى يثرب (التي أطلق عليها بعد ذلك اسم: المدينة) ناجيا من اضطهاد المكيين. وهناك لم يغد قائدا دينيا فحسب، بل زعيما سياسيا وحّد المسلمين تحت راية الإيمان بإله واحد، فجمعهم في أمة واحدة تعلو فوق جميع انقسامات القبائل والعشائر. وعلى الرغم من بعض المعوقات نمت هذه الأمة وازدهرت. أمل محمد في كسب اليهود والنصارى إلى رسالته، التي رآها على أنها امتداد لديانتهم وارتقاء لها، لكن أمله هذا لم يتحقق. سرعان ما وصلت الأمور إلى نقطة اللا عودة، فغير محمد قبلة صلاته من بيت المقدس في القدس إلى الكعبة في مكة. وفي 630 م حطّم الأصنام والصور وشتى الرموز الدينية المنتشرة في أنحاء مكة. ثم سنة 632 م، قصد محمد مكة في رحلة الحج الأعظم التي أرست أسس تقليد الحج السنوي القائم حتى اليوم. توفي محمد عام 632. حياته وسلوكه، مع القرآن، قدوة للمسلمين. بعد وفاة زوجته خديجة اتخذ عددا من النساء زوجات له في الوقت نفسه. كذلك، وفقا للتقليد الإسلامي، كان محمد أميا مما يشدد على كون تعاليمه لا تعود إلا للوحي من دون أية مساهمة منه.

ومما تجدر ملاحظته أن كثيرا من قصص الأنبياء في القرآن تتبع نفس المنهج:

يصطفي الله نبيا من بين قومه.

يتكلم النبي لغة قومه.

يدعو النبي إلى الإيمان بالإله الواحد (وهي الرسالة نفسها التي دعا إليها جميع الأنبياء).

يعاني النبي من عداوة قومه الذين يهددونه في بعض الأحيان بالقتل.

ينجّي الله رسوله ويعاقب القوم الكافرين.

تتناسب هذه الخطوات مع تجربة كل من محمد ومن سبقه من الأنبياء بحسب ما ورد في القرآن. وهكذا يبدو المسيح، في القرآن، شأن محمد، من الدعاة إلى الإيمان بإله واحد، رافضا بحسم الأقاويل المنسوبة إليه والتي يُزعم فيها أنه وأمه إلَهان إلى جانب الله. جاء في [سورة المائدة: 116-117]: )وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ . مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ(.

وقد عانى محمد بعد هجرته إلى المدينة من عداوة القبائل اليهودية المحلية في درجة أولى، ومن معارضة المسيحيين بدرجة أدنى. ولئن كانت رسالته ذات صلة بتقليد الكتاب المقدس، مع التركيز على نقاط مختلفة، اعتبر نفسه وأمته بالتالي أتباع إبراهيم الحقيقيين، ورفض مزاعم اليهود والمسيحيين بشأن إتباعهم إبراهيم. فما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا، بل إمام الموحدين ومثالهم الأعلى، وهذا التوحيد هو الذي جاء محمد ليجدده ويعيده، (سورة البقرة: 135-140). وقد رأى محمد نفسه وارث التقاليد النبوية الحقة، التي تمثلت فيه باعتباره خاتم الأنبياء (راجع سورة الأحزاب 40)، فوصلت إلى أوجها وأسمى أشكالها. يغدو بالتالي القرآن (أي الرسالة التي أوحيت إلى محمد)، المقياس الأسمى لدراسة شتى الكتابات المقدسة السابقة كالتوراة والمزامير والأناجيل. أما هذه الأخيرة، ووفقا لتعاليم القرآن، فقد أسيء فهمها، وعُدلت وحُرفت، وفقدت صحتها الأصلية. وحده الإسلام بالتالي هو الدين الحق الذي لم يحرف شأن الأديان الأخرى.

 

ثالثا: نظرة المسيحيين

 

تشكل النُّبوة عنصرا جوهريا في التقليد الكتابي للعهدين القديم والجديد(7) ، وقد بلغت ذروتها في المسيح، كلمة الله الذي صار جسدا، وهو النبي بامتياز، وهو "مُبدِئِ إِيمانِنا ومُتَمِّمِه " (الرسالة إلى العبرانيين 2:12). تجد النبوة استمرارها في الكنيسة التي تتواصل النبوة فيها إلى آخر الزمان؛ ليس لأنها مؤتمنة على التعاليم الدينية وحسب، بل بحكم وجودها وحياتها لأنها شعب الله الذي حل عليه الروح القدس.

 على أن روح النبوة يمكن أن تنشط إلى ما بعد حدود الكنيسة، مثلما كان الأمر مع رجال ونساء العهد القديم الأبرياء كملكيصادق وأيوب وملكة سبأ. كذلك، لاحظ يوستنيانوس (شهيد القرن الثاني) بذور كلمة الله(8) لدى عدد من الفلاسفة والمتنبئين بالمستقبل (مثل السيبيلا اليونانية)

 

مؤخرا، ذهب بعض علماء اللاهوت المعاصرين إلى أبعد من ذلك؛ فقد أعلن البروفيسور كلود جيفري (Claude Geffré) (أستاذ في المعهد الكاثوليكي في باريس) علنا في المؤتمر الثاني للحوار الإسلامي المسيحي في تونس 1979م ما يلي: إن الوحي الذي أنزل على محمد كلمة من الله، أما المسيح، فأكثر من نبي لأنه هو نفسه كلمة الله. ونتيجة لذلك أقرّ علماء لاهوت مجموعة البحوث الإسلامية المسيحية التي تأسست عام 1977، بحضور "كلمة من الله" في القرآن تختلف عن "كلمة الله" في يسوع (عيسى) المسيح. أما الاختلافات والتناقضات (مثل رفض القرآن للأسرار في جوهر العقيدة المسيحية مثل التجسد والثالوث الأقدس) فسببها مرور كلمة الله عبر وسطاء من البشر، وهم القناة التي تعبر كلمة الله من خلالها لا محالة. 

ونلاحظ تطورات مماثلة بين لاهوتيين من مذاهب مسيحية أخرى. ففي دراسة عنوانها "محمد والمسيحيين" صدرت عام 1987، دعا الأسقف الإنجليكاني وعالم الإسلاميات المشهور كينيث كراج (Kenneth Cragg) المسيحيين إلى الإقرار علنا بأن محمدا نبي حقا، مع الإصرار على أن المسيح "أكثر من نبي"(9) .

لم يقدم المجمع الفاتيكاني الثاني تصريحا نهائيا في هذا الشأن، لكنه شجع تحول الكنيسة إلى روح عامة من الانفتاح نحو الإسلام من دون ذكر محمد باسمه قط. أعلن المجمع: "إن الكنيسة تنظر إلى المسلمين بتقدير" (وهو أمر جديد)، وذكر المجمع العقيدة والشعائر الإسلامية بتقدير من دون نكران الاختلافات الأساسية بين الدينين. بهذا التصريح ومن خلال دعوة المسيحيين إلى تقدير المسلمين بصفتهم مؤمنين بإله واحد، يرفض المجمع ضمنا مقولات الماضي الجدلية والسلبية ضد محمد. فمحمد مؤسس هذه الأمة ذات "الأسوة الحسنة" (سورة الأحزاب 21). وقد حرص الباباوات بولس السادس (1897-1978) ويوحنا بولس الثاني (1920-2005) خلال الاجتماعات مع المسلمين على توسيع روح الأخوة هذه النابعة من الإيمان باله واحد.

 

 نخص هنا بذكر ما جاء في خطاب البابا يوحنا بولس الثاني إلى المسيحيين في أنقرة (تركيا) في نوفمبر/ تشرين الثاني 1979، وإلى الشبيبة المسلمة في الدار البيضاء (المغرب) في 17 آب / أوغسطوس1985، حيث تكلم عن الأخوّة بين الإسلام والمسيحية. وقد انتهت الندوات اللاهوتية ومؤتمرات الأساقفة الإقليميين إلى تصريحات مماثلة. فعلى سبيل المثال، أفاد المؤتمر اللاهوتي الدولي، المنعقد في نجبور Nagpur (الهند) سنة 1971، بأن "تحمل كتابات وشعائر أديان العالم على تفاوتها وحيا إلهيا وطريقا للخلاص". وفي المؤتمر الإسلامي المسيحي الثاني في قرطبة (آذار / مارس 1977)، دعا الكاردينال تارانكون (Tarancon)، رئيس أساقفة مدريد ورئيس مؤتمر الأساقفة الإِسبانيين، خلال كلمته في الجلسة الافتتاحية، المسيحيين إلى الاعتراف بمقام محمد النبوي، 

لإيمانه بالله ومجاهدته ضد الوثنية وتعطشه للحق والخير. ومنذ القرن الثامن ميلادي، نجد البطريرك النسطوري تيموطاوس ينطق بالكلام ذاته أثناء حواره مع الخليفة المهدي في بغداد، حيث قال: "سار محمد على درب الأنبياء.(10).

شُجع المسيحيون على الاعتراف بالقيم الدينية والأخلاقية التي تحلّى بها المسلمون منذ البداية وإلى اليوم، من دون التخلي عن أي من مبادئ إيمانهم المسيحي الجوهرية. تُفتح بالتالي الطريق أمام المسيحيين ليعترفوا بأن في القرآن كلمة من الله، وأن في رسالة محمد شيء من النبوة.

جاء في محاورة تيموثاوس الجاثليق: " ان محمدا يستحق المدح من جميع الناطقين، وذلك لاجل سلوكه في طريق الانبياء ومحبيّ الله. لان سائر الانبياء قد علمّوا عن وحدانية الله، ومحمد علّم عن ذلك" ،  الاب هـ بوتمنان اليسوعي، البطريرك طيموتاوس الاول، دار المشرق1986 ص 31 رقم 159

 

 

رابعا: أجوبة المسيحيين

 

1.إننا مقتنعون بألا حوار حقيقي إلا على مستوى الشراكة الحقيقية، وبأن احترام إيمان الآخر مكون أساسي لمثل هذا الحوار. تأسيسا على ذلك، لا يمكن للمسيحي أن يشترط على المسلم أن يؤمن أولا بأن المسيح ابن الله قبل المباشرة بالحوار. والعكس بالعكس، لا يمكن للمسلم أن يشترط على المسيحي بأن يؤمن بأن محمد خاتم الأنبياء وأن القرآن هو المرجع النهائي لكل الكتب المنزلة، إذ يعني هذا ببساطة أن على المسيحي أن يصبح مسلما قبل أن يبدأ الحوار، والعكس بالعكس، مما يحول دون الحوار(11).

2.يكرم المسيحيون معظم الأنبياء المذكورين في القرآن إضافة إلى نخبة من الأنبياء ممن ورد ذكرهم في الكتاب المقدس وليس في القرآن، شأن أشعيا وإرميا وحزقيال. من جهة أخرى، ينتمي بعض الأنبياء المذكورين في القرآن حصرا إلى التقليد العربي، فلم يأت الكتاب المقدس على ذكرهم. لكن رغما عن ذلك، وبغض النظر عن عدد الأنبياء وفحوى رسالتهم وأسمائهم، يشترك المسيحيون والمسلمون في عبادة إله واحد "خاطب الجنس البشري" بحسب ما ورد في المجمع الفاتيكاني الثاني(12). لا يبني بالتالي المسيحيون والمسلمون إيمانهم على مقاربة دينية فلسفية فحسب، بل على كلمة الله التي سمعوها بواسطة الأنبياء. يتلقون هذه الكلمة النابعة من الله (إله من إله، على حد قول المسيحيين) بإيمان ويخضعون لها، مسلّمين أنفسهم لها (والتسليم في جوهره هو المعنى الحقيقي للإسلام، لأن كلمة مسلم تعني: مَنْ يُسلم وجهه لله).

 

3.يمكن تلخيص الاختلاف بين المسيحية والإسلام في ما يلي: في الإسلام بلغ الوحي النبوي أوجه وختامه في محمد، خاتم الأنبياء. أما في المسيحية فيبلغ منتهاه في المسيح، كلمة الله الذي صار جسدا، ومات على الصليب، وقام من بين الأموات فمثل الوحي في تمامه وكماله (Pleroma). لذا ينبغي تجنب تسمية المسيح: "خاتم الأنبياء" لأن لهذا اللقب مضمونا إسلاميا محددا، واستخدامه قد يعيق الحوار بين الأديان بدلا من تعزيزه.

4.مهما كان الأمر، فكون العقيدة المسيحية ترى كمال الوحي في شخص المسيح لا يحول دون إقرار المسيحيين بأن الله قد تجلى للبشرية في أماكن أخرى من العالم، قبل المسيح وبعده. وفيما يتعلق بالقرآن ومحمد، فيمكن للمسيحي أن يعترف بأن في القرآن كلمة من الله لم توحى للمسلمين فحسب بل للناس كافة، ولي شخصيا. وإذ أنظر إلى قوة دعوة القرآن إلى عبادة إله واحد متجل، أجد فيها جانبا أساسيا من رسالة يسوع (عيسى) نفسه، ودعوة لكي أحيا في توافق عميق مع هذه الرسالة. وإذا أردت أن أعطي إجابة مؤمن مسيحي لرسالة القرآن، فإني أعترف بأن الله أرسل محمدا ليبشر بجانب جوهري من الحقيقة: توحيد الله وعلوه في طبيعته الإلهية. ويا له من جانب مهم من الحقيقة، أقله في عالمنا الحديث الذي ساد فيه نسيان شبه تام لوجود الله.

5.يتشارك المسيحيون والمسلمون بشهادة واحدة لحقيقة جوهرية مشتركة، فيسلمون (إسلام) لعمل الله - كما أوحي إليهما في الدينين - وبصفتهما مسيحيين ومسلمين، يدركان مشروع الله ومشيئته لهذا العالم بعمق، ويشهدان لهما بفعالية أكبر، فيحملان معا كلمة الله إلى عالمنا هذا.

ملاحظة

يقدم جاك جوميي (Jacques Jomier)، اللاهوتي المسيحي البارز وعالم الإسلاميات، أفكارا تستحق النظر حول ما يعنيه محمد للمسيحية(13). في زمن محمد، كانت المسيحية بحاجة ماسة إلى إصلاح وتجديد بروح المسيح. اقترح بالتالي جوميي الحديث عن محمد باعتباره مصلحا متمتعا بكاريزما المصلح الرشيد. لكن من جهة أخرى، يصعب على المسيحي تطبيق مفهوم النبوة (بمعناها اللاهوتي المسيحي والإسلامي) على محمد.

 

إذا فهمنا مصطلح الـ"نبي" بالمعنى المطلق للكلمة، فهو يشير إلى شخص ينطق باسم الله فتصطبغ كلماته بسلطة إلهية، ولا بد من إطاعتها. وفقا لهذا التعريف للنبوة، يستحيل على المسيحي أن يطلق لقب "النبي" على مؤسس الإسلام، إذ لو أطاع المسيحيون محمد من دون تحفظ، لكانوا مسلمين، وليس مسيحيين. يعجز بالتالي المسيحيون عن تقبل محمد نبيا بالمعنى الدقيق للكلمة، أي الإيمان به وإطاعته. قد يستخدمون لقب النبي للإشارة إلى محمد مع بعض القيود؛ بتعبير آخر، لا يستطيعون قبول مجمل كلام هذا النبي، يقبلون بعضه، ويرفضون البعض الآخر. أما بالنسبة للمسلمين، فهذا الموقف الانتقائي غير مقبول إذ يعتبرون محمدا نبيا حقيقيا، لا بل خاتم الأنبياء.

 

يتقبل المسيحيون الأنبياء العبرانيين الذين مهدوا الطريق للمسيح والوارد ذكرهم في الكتاب المقدس، ويحتلون مكانة خاصة. حتى صغار الأنبياء منهم مثل صفنيا يشتركون في هذه المكانة الفريدة، لأنهم، وعلى الرغم من كونهم أنبياء صغار، يشغلون مقاما في ترتيب أنبياء التقليد العبراني. فهم من ملهمي الإيمان المسيحي بفضل كلامهم والنصوص العائدة إليهم في الكتاب المقدس. لا يجدر بالتالي في المسيحية استخدام لقب النبي – بالمعنى الديني واللاهوتي – لمحمد، وإن استُخدم فيكون بمعنى محدود لا يليق بالإيمان الإسلامي. لذلك من الأفضل أن يعتمد المسيحيون منظورا مختلفا حول محمد يقضي بما يلي: الاعتراف بالحقيقة التي تنطوي رسالة الإسلام عليها، الاعتراف بالمسار الروحي الذي سار عليه المسلمون واحترامه، والاعتراف بأن محمدا عبقرية دينية وسياسية. لا بد من الإقرار أنه بنعمة الله في الإسلام – في القرآن وفي سنة محمد – عاش عدد لا يحصر من المؤمنين في علاقة حقيقية مع الله.

 

أخيرا، يمكن تفسير الإسلام ضمن سياق تاريخ الأديان العام على أنه محاولة إصلاح راديكالي لكل من اليهودية والمسيحية، لكنها بلغت في راديكاليتها حد تحريف بعض الجوانب الجوهرية لهذه التقاليد الدينية (أي اليهودية والمسيحية). ويمكن القول بشيء من التبسيط، وبغض النظر عن بعض الاختلافات، إن الإسلام (ورسوله محمد) شبيه بالحركات الإصلاحية الكبرى عبر التاريخ. فالإسلام انبثق من بيئة متأثرة باليهودية والمسيحية، لكن هذه الأخيرة كانت ممزقة بسبب الانقسامات المذهبية والنزاعات العقائدية. تحول هذا الإصلاح الذي أتى به محمد على المسيحية واليهودية إلى حركة جديدة ومستقلة. سلط الضوء على جوانب معينة في اليهودية 

 

 

والمسيحية شأن التوحيد لله من دون سواه، وعلوه وسلطانه المطلق على الخليقة جمعاء، ودعوة جميع الناس إلى الخلاص. لكنه نكر جوانب مهمة أخرى في كل من الدينين. ألا يمكن أن يكون الإسلام قد اضطلع في زمن معين، وفي سياق خاص، بمهمة تحفيز الكنيسة المسيحية على إصلاح نفسها؟ حتى لو تقبلنا هذا، فهذا لا يعني البتة أنه علينا رفض الحقائق المسيحية التي لم تجد سبيلا لها إلى الإسلام .

_____________________________________________________________

(7)  النبي هو المنادي ببشارة دينية وفي المعنى اللاهوتي هو الرجل الذي دعاه الله ليحمل الوحي الالهي والتعبير عنه بصورة سليمة ومن دون غلط.  ولما كانت هذه العطية هي تقديم الله ذاته الى البشر، فلقد بلغت ذروتها في المسيح من دون رجعة. فكلمة الله  هي شخص يسوع. وبالتجسد يجتاز المؤمن من الحوار مع الكلمة الى شركة حية مع الكلمة المتجسد.

(8) الحوار مع تريفون اليهودي، رقم 6،  طالع ساكو، الاباء الاوائل، بغداد 1999 ص  8

Muhammad and the Christian: a question of response. London,1987, p.180 (9)

(10) جاء في محاورة تيموثاوس الجاثليق: " ان محمدا يستحق  المدح من جميع الناطقين، وذلك لاجل سلوكه في طريق الانبياء ومحبيّ الله. لان سائر الانبياء قد علمّوا عن وحدانية الله، ومحمد علّم عن ذلك" ،  الاب هـ بوتمنان اليسوعي، البطريرك طيموتاوس الاول، دار المشرق1986 ص 31 رقم 159

(11) المجمع الفاتيكاني الثاني،    نور العالم رقم16، والعلاقة مع الديانات الاخرى، رقم3 

(12) المجمع الفاتيكاني الثاني،  جزء 2 ، العلاقة مع الاسلام رقم 3.

How to understand Islam, London SCM Press, 1989, pp.140-148 (13)

Contact us

J. Prof. Dr. T. Specker,
Prof. Dr. Christian W. Troll,

Kolleg Sankt Georgen
Offenbacher Landstr. 224
D-60599 Frankfurt
Mail: fragen[ät]antwortenanmuslime.com

More about the Authors?