الزواج
1- النظرة الاسلامية
يتبع الزواج الإسلاميّ بين الرجل والمرأة النظام الإلهي في الخلق:
« وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ» (سورة النحل 71).
إنّ العائلة والزواج هما من خلق الله وقد أرادهما «من الطيّبات».
الزواج هو المكان الطبيعيّ لدى الإنسان لممارسة الجنس والإنجاب. ومثل المسيحية، يمنع الدين الإسلاميّ ممارسة الجنس قبل الزواج أو خارج نطاق الزواج، ويحصر تعبير الجنس بالزواج، وهو حالة المساكنة بين الرجل والمرأة وفيها تزدهر حياة الأهل والأولاد. وبعكس الكنيسة الكاثوليكيّة، التي تكنّ للعفّة الاختياريّة من أجل دواعٍ دينيّة تقديرًا عاليًا، يفضّل الإسلام الزواج بوضوح (راجع سورة النور 32).
كما يؤكّد القرآن الكريم على المساواة بين الرجل والمرأة. فمسؤوليّة الخلق – وقد تمّ التعبير عنها بكلمة تسخير - أُعطيت للزوج والزوجة معاً وليس فقط للزوج.
وينبغي للعلاقة بين الزوجَين أن تتّسم بالحبّ والرحمة:
«وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» (سورة الروم، 20).
ويكمّل الزوج والزوجة بعضهما بعضًا ويكون الواحد كرداءٍ للآخر:
«أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ"» (سورة البقرة 187).
ومع ذلك هناك آيات في القرآن تعطي الأفضليّة للزوج على زوجته. «وَهوَ قَوّامٌ عَلَيها» (سورة البقرة، 228) وله سلطة ومسؤوليّة عليها:
«الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ وَاللاَتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً» ( سورة النساء 33)
هذه الآية تعني: الزوج مُفضّل على زوجته وأعلى منها طالما أنّ لديه من مسؤوليّة وواجبات تُجاه زوجته وأولاده. وهذا يشمل دفع المهر للزوجة، وتأمين معيشتها، وحماية زوجته وأولاده من خلال تأمين ما يحتاجون إليه.
الزوج هو رئيس البيت والعائلة ومسؤول عن الدخل الماليّ لها، وعن مكانة العائلة في المجتمع ومصالحها، وعن الأمور الخارجيّة، أما الزوجة فمسؤولة عن الأمور المنزليّة ورعاية الأطفال. ليس للزوج أو الزوجة الواجبات نفسها، فلكل واحدٍ واجباته.
يميل الإسلام الى الفصل بين الجنسين في المجتمع. وبالتالي هناك بعض القواعد السلوكيّة للنساء. فلا يحقّ لها التصرّف بحرّيّة سوى في بيتها وأمام أفراد عائلتها ومع نظيراتها من النساء. خلافًا لذلك، على سلوكها أن يكون مقيّدًا:
«وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ [...]» ( سورة النور، 31).
هذا يفسّر عادة الحجاب التقليديّة واحتشام النساء في الحياة العامّة، الذي لا يصبو إلى التفرقة ضدّ النساء بل إلى حمايتهنّ.
وعلى الزوج أيضاً أن يتحلّى بالحشمة وضبط النفس:
«قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ» (سورة النور 30)
لذلك يحدّد القرآن أن الزوج والزوجة متساويان على أن يقوم كلّ منهما بمهامّه وواجباته. ويبدو أنّ الممارسة اليوميّة تختلف عن هذه النظرة. فالتطوّرات التاريخيّة والعادات والتقاليد، خصّصت للنساء في كثير من الأحيان دور الخنوع.
والمجتمع الغربيّ يعرف أيضًا البنية الأبويّة للمجتمع. لذلك يجب عدم الخلط بين المعيار الدينيّ والمعيار الاجتماعيّ حين ننظر إلى الثقافتين الشرقيّة والغربيّة، على الرغم من أنّ كلّ منهما يستند إلى الآخر.
النظرة المسيحيّة
1- طابع الزواج
تؤمن الكنيسة الكاثوليكية بأنّ الله نفسه وضع الشراكة بين الرجل والمرأة. فقد خلق الله الناس على صورته رجلًا وامرأة، وأعطاهما الواحد للآخر ليكونا رفيقَين. وهذا مذكور في رواية الخلق الأولى بسفر التكوين في العهد القديم:
«وقالَ الله: «لِنَصنَعِ الإِنسانَ على صُورَتِنا كَمِثالِنا [...]». فَخَلَقَ اللهُ الإِنسانَ على صُورَتِه على صُورَةِ اللهِ خَلَقَه ذَكَرًا وأُنْثى خَلَقَهم. 28 وبارَكَهمُ اللهُ وقالَ لهم: اِنْموا واَكْثُروا وأمْلأُوا الأَرضَ [...]» (تكوين 1: 26- 28).
وتشدّد قصّة الخلق الثانية على الشراكة بين الرجال والنساء بطريقة أوضح:
« لا يَجبُ أَن يَكونَ الإِنسانُ وَحدَه» (تكوين 2: 18)
وأكثر من ذلك أيضًا:
«ولذلِكَ يَترُكُ الرَّجُلُ أَباه وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه فيَصيرانِ جَسَدًا واحِدًا» ( تكوين 2: 24).
وأكّد يسوع في العهد الجديد أمر الله في شأن الزواج بقوله:
«فمُنذُ بَدْءِ الخَليقَة «جعَلَهما اللهُ ذَكَراً وأُنْثى. ولِذلِكَ يَترُكُ الرَّجُلُ أَباهُ وأُمَّه ويَلزَمُ امرأَتَه. 8ويَصيرُ الاثنانِ جسَداً واحداً». فلا يكونانِ اثنَيْنِ بَعدَ ذلك، بل جسَدٌ واحِد» ( إنجيل مرقس 10: 6- 8).
تشكّل هذه النصوص أساس عقيدة الكنيسة الكاثوليكيّة التي تنصّ على أنّ الزواج يهدف إلى:
منفعة الزوجين؛
الإنجاب وتربية الأطفال
وبحسب فهم الكنيسة الكاثوليكيّة للزواج فإنّه من جهة:
الخير الشرعيّ أي إنّ العلاقة قائمة على أساس القانون فهو يفرضها ويحميها. إنّها عقد.
ومن جهةٍ أخرى
يُصاغ التعريف القانونيّ لفهم الزواج بأنّه عهد. عقدٌ تمّ بإعلان الموافقة بين الشريكين لتقديم خدمة معيّنة. وهذا المفهوم هو أيضًا جزء من مفهوم الزواج. ولكن يمكننا استخدام كلمة أقوى وأرقى من كلمة عقد وهي العهد الّتي تؤكّد على أنّ الزواج علاقة شخصيّة، وعيش الوحدة، الجماعة، في مصير الزوجَين الّذي يدعمه الإيمان، وهو متأصّل فيه.
ويذكر التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة هذا الأمر ويزيد بقوله:
السرّ هو العلامة المرئيّة لعهد الله مع للبشريّة. ويحمل الزوجان على عاتقهما مسؤوليّة جعل هذه العلامة مرئيّة، وجعل محبّة الله للبشريّة مرئيّة، مثلما أظهر الله محبّته للبشريّة بيسوع المسيح. فالزواج يعني: أن يمنح كلّ واحدٍ الآخر حبّ الله الّذي منحهما إيّاه في سرّ الزواج، وعليهما أن يُظهراه للخارج في الجماعة المحيطة.
تعتبر الكنيسة الكاثوليكيّة زواج المسيحييّن من بعضهم بعضًا فقط سرًّا. والكنيسة تحترم وتحمي الزواج بين المسيحييّن وغير المسيحييّن، والزواج بين غير المسيحيّين، بغضّ النظر عمّا إذا تزوّجوا دينيًّا أو مدنيًّا أو بحسب القانون المحلّي للعشائر. لأنّ الناس أو الكنيسة لم يؤسّسوا الزواج بل هو متأصّل في إرادة الله وأعماله.
إنّ الزواج بين شريكَين في الإيمان الإسلاميّ يتمّ بحسب الشريعة الإسلاميّة ، لذلك فهو ليس سرًّا ومع ذلك فهو شرعيّ. وليس الزواج بين مسلم ومسيحية أو العكس سرًّا (إذا أصبح المسلم مسيحيًّا يصير الزواج سرًّا). ومع ذلك، تحمي الكنيسة وتبارك هذا الزواج وتعترف بشرعيّته الكاملة، وهذا التساهل من الكنيسة يأتي لإزالة عائق اختلاف ديانة الزوجين.
2- صفة الزواج
تعتبر الكنيسة الكاثوليكيّة الزواج مشاركة في الحياة الشخصيّة، الّتي تستبعد أيّ علاقة مشابهة - بما فيها الأفعال الجنسيّة غير الشخصيّة – مع آخرين. وهذا لا يتأصّل فقط في قرار الزوجين تجاه بعضهما بعضًا، بل في اتحادهما ببعضهما بعضًا من خلال الله. فبحسب التعليم الكاثوليكيّ كلّ زواج له صفة:
وحدة الزواج وعدم انحلاله:
الوحدة تعني زوجًا واحدًا، أي الزواج بين رجل واحد وامرأة واحدة. لذلك فإنّ كلّ نوع من الزواج المنافس أو اللاحق ما دام أحد الزوجين على قيد الحياة مرفوض. وبناءً على ذلك لا تقبل المسيحية تعدّد الزوجات أو تعدّد الأزواج.
عدم الانحلال يعني: لا يمكن لأحد الشركين أو كليهما، إذا عقدا زواجًا ومارساه، أن يحلًاه ليتمكّنا من الزواج من شريك آخر. فلا يوجد انحلال داخليّ (من خلال الشريكَين) أو خارجيّ (من قبل سلطة خارجيّة). فالموت وحده يحلّ رباط الزواج.
هذا النصّ من:
(From: Katholisch/islamische Ehen: Eine Handreichung. Hrsg. Erzbischöfliches Generalvikariat Köln, Hauptabteilung Seelsorge. Editor: Referat für Interreligiöse Dialog, 2000, p. 11-14; 35-39.).
العفة: دعوة دينية
أولا: تساؤلات المسلمين
لماذا لا يتزوج الكهنة ورجال الدين؟
ثانيا: نظرة المسلمين
النظرة العامة
وفقا لتعاليم الإسلام، من الطبيعي لكل رجل وامرأة أن يكوّنا أسرة وأن يقبلا، بصفتهما مؤمنين، متطلبات ومخاطر هذا الوضع. يعتبر بالتالي بناء أسرة ورعايتها واجبا دينيا وإنسانيا تجاه الجماعة. لذلك ينظر المسلمون بارتياب إلى من يختار العزوبية على الرغم من قدرته على الزواج، ويعزون السبب إما إلى الأنانية أو العجز أو خيبة الأمل بعد قصة حب تعيسة. يشكك كذلك المسلمون بقدرة الإنسان على احترام قسم (نذر) العفة: يعتقدون بوجود علاقات غرامية سرية بين الرهبان. ويعتقدون بأنه يستحيل على الرجل والمرأة السليمين العيش من دون علاقات جنسية.
الزواج واجب ديني لكل مؤمن، وكما ورد في حديث نبوي كثير التداول على ألسنة المسلمين: "الزواج نصف الدين". ينطبق هذا الحديث أكثر ما ينطبق على الرجال إذ من واجبهم حماية "الجنس اللطيف". نفهم بالتالي لماذا تمثل العزوبية الاختيارية اشكالية بين المسلمين، فتثير انتقاداتهم اللاذعة.
ازدادت اليوم حالات العزوبة الاختيارية بين الرجال والنساء في العالم الإسلامي. تُعزى هذه الظاهرة المؤقتة إلى تفاني الإنسان في خدمة قضية معينة، مثلا: رعاية الإخوة الأكبر لإخوتهم وأخواتهم الأصغر سنا، أو تكريس الذات كليا للعمل، خاصة في ميدان التمريض والرعاية الاجتماعية، أو تكريس الذات لقضية مثل الفلسطينيين المناضلين من أجل الحرية. وقد ينجم هذا القرار عن أسباب خاصة، مثل الرغبة في تحقيق الذات خارج نطاق الزواج أو قبله، أو عن أسباب دينية، مثل الحجاج العزاب والأرامل الذين ينذرون البقاء في مكة للذكر والعبادة لفترة معينة أو طوال حياتهم.
من عرف الرهبان وأعضاء الإكليروس واختبر حياتهم اليومية، يعترف بقدرة الإنسان على عيش العفة فعلا. يُعجب الكثير من المسلمين بنمط الحياة هذا. وقد شهدنا هذا لدى المسلمات اللواتي يعشن أو يعملن مع الراهبات المسيحيات، فيعربن عن رغبتهن في عيش العفة كمسلمات، لكن يأسفن لغياب هذا النمط من الحياة الدينية في الإسلام. ما هي دوافعهن؟ هل هي الرغبة في الهروب من الزواج؟ أو الطوق نحو حياة مكرسة؟ غالبا ما يجيب المسلمون قائلين: "لا رهبانية في الإسلام".
النظرة الإسلامية المفصلة
لا يعترف الإسلام بالعفة (العزوبة) كدعوة دينية أو بشرية، إلا ضمن بعض الاستثناءات. لا أثر لهذا النوع من الدعوة في القرآن. كان الرسول نفسه متزوجا، وقد وصلتنا أحاديث عديدة تتغنى بالزواج وترسم صورة سلبية عن العفة (العزوبة) رافضة إياها كليا، ومنها: "الزواج سنتنا"، أو ما مفاده: "الزواج نصف الدين"، و"لو بقي لدي يوم واحد لأعيش، لاتخذت لي زوجة حتى لا أمثل أمام الله رجلا أعزبا". قيل يوما لرجل غير متزوج: "هل عزمت على العيش في زمرة إبليس؟ إذا رغبت أن تصبح راهبا مسيحيا، انضم إلى جماعة المسيحيين صراحة، لكن إن كنت واحدا منا، فاتبع سنتنا (وتزوج)!"
ويشرح الغزالي (1058-1111)، أحد كبار علماء الدين الإسلامي، بالتفصيل لماذا الزواج واجب إلزامي في الإسلام:
لم لا يتزوج الكهنة وأعضاء الإكليروس؟
لإنجاب البنين والبنات طاعةً لله ورسوله،
لتقوية الأمة الإسلامية،
لإشباع الحاجة الجنسية وتذوق شيء من نعيم الجنة على هذه الأرض، بالنسبة للزوج: للحصول على زوجة ترعى شؤون المنزل فيتسنى له التفرغ للصلاة،
بالنسبة للصوفي: للاسترخاء والتمتع بالذات بحضور الزوجة،
وأخيرا، يعلّم الزواج الإنسان فضيلة الصبر إذ عليه تحمل مزاج امرأته بتسامح.
يُلاحظ أن معظم المتصوفين المسلمين كانوا من المتزوجين.
لا تُرفض العزوبة أو تُجاهل على الدوام. فالقرآن يثني على مريم، المثال الأعلى للطهارة البتولية، فقد )أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا( [سورة هود:91، سورة التحريم: 12، وقارن سورة آل عمران: 39]. يشير القرآن كذلك إلى يحيى (يوحنا المعمدان) الذي كان "حصورا" كما يلمح إلى عزوبة يسوع. يثني القرآن على الرهبان [سورة المائدة: 82، سورة النور: 36-37، وسورة الحديد: 27، لاحظ أيضا سورة التوبة: 31، 34]. عاش بعض المتصوفين والمتقشفين في العفة، على غرار رابعة العدوية البصرية التي يُفسر رفضها بالزواج على أنه قسم بتكريس ذاتها لله. تثني كذلك كتب بعض الطرق الصوفية (مثل الرحمانية والبكتاشية) على خيار العزوبة لأسباب دينية. في جدل حول العزوبة، ينتهي الغزالي إلى أنها مقبولة في حال عجز الإنسان عن تحمل نفقات وأعباء الأسرة، أو إذا كانت الزوجة صعبة الطباع، أو إذا كانت تعيق سلوك المتصوف طريق الذكر والتأمل. ينهي الغزالي قائلا إن قيمة الزواج أو العزوبة رهن الظروف الخاصة. أما النموذج المثالي فيقضي بالجمع بين حياة الزواج من جهة، وحياة التقوى والتعبد، على غرار النبي محمد من جهة أخرى.
وعن عزوبة المسيح، يعلق الغزالي قائلا:
"لعله كان عارفا بالفطرة أن الانشغال بالأسرة يستنفد قواه، أو يصعب عليه إعالة الأسرة قانونا، أو أنه عجز عن الجمع بين الزواج وعبادة الله، لذا اختار التفرغ لله(24).
ثالثا: نظرة المسيحيين
ليست عزوبة العلمانيين محط بحثنا هذا، بل الدعوة الدينية إلى العفة التي تشمل الامتناع والعزوبة المطلوبة من الكهنة ورجال الدين (الإكليروس).
وجهة النظر الكاثوليكية
في العقيدة الكاثوليكية ثلاثة دوافع أساسية ومتكاملة لدعوة العفة:
1.الفوز بملكوت الله (متى 12:19)، أو (حسب بولس) التبشير بالإنجيل (الرسالة الأولى إلى أهل قورنتس 9). بالعفة يعبر المؤمن عن شكره وحبه ليسوع المسيح. بالنسبة للمدعوين إلى العفة، يستطيع أسلوب العيش هذا أن يعمق الاتحاد الداخلي بالله، ويزيد الانفتاح على كلمته. قد تكون العفة ترقبا لله وملكوته.
2..خدمة الآخرين التي تتعمق بالتعبد التام والاستجابة إلى دعوة الله.
3.اقتداء واع بالمسيح الذي عاش العفة، وبمريم العذراء (بحسب قانون الإيمان). هذا ما ألهم العديد من المسيحيين فعاشوا العفة من أجل المسيح.
وجهة النظر البروتستانتية
يتساوى الزواج والعفة من حيث المقام، ولا أولوية للواحد على الآخر. لكن قد يكون للعفة إفادة حين تأتي التزاما في سبيل البشارة بالإنجيل، غير أنها ليست إلزامية لدى القسيسين (رجال الدين البروتستانتيين). تعيش بعض الجماعات العفة، لكنها ليست التزاما نهائيا. ولا ينظر إلى عزوبة المسيح على أنها ذات وظيفة دينية حيوية، رغم أنه يمكن لمن يشاء الاقتداء بعفته.
رابعا: وجهة النظر المسيحية الكاثوليكية
ردا على المسلمين الذين يرون في العفة أنانية، يمكن الإجابة بأن الدعوة إلى العفة تنبع من الرغبة في خدمة الآخرين (الخدمة الإنسانية)، وإرادة صنع الخير (الأعمال الخيرية). لكن لا بد من معتنِق العفة أن يكون متوفرا فعلا لخدمة الآخرين. لن يكون التزامه مقنعا إن لم يختلف عن حياة المتزوجين. يعجز المسيحي عن عيش دعوته بالعفة إلا إذا جعل حياته كلها مفعمة بروح الإنجيل.
إلى من يركز على الواجب الديني والخلقي في الزواج وتكوين أسرة، يمكن الرد: إن في العفة التزام كامل لله (أو تسليم تام لوجه الله) في سبيل الصلاة والعبادة، مما يفترض تكريسا تاما.
ردا على القائلين إن خيبة الأمل بعد قصة حب تعيسة تشكل دافعا للعفة، يمكن تسليط الضوء على قيمة الحياة الزوجية وجمالها، وعلى العائلة المسيحية كمثال أعلى، أو على الإخوة والأخوات الذين يعيشون حياة زوجية سعيدة(25).
علينا ألا ننكر صراع العزوبة وألا نكتم تجاربها، وألا نعطي انطباعا بانها امر سهل. انه شيء فوق الطبيعة ونعمة ولكن هناك من يتراجع لشدة صعوبتها ويترك هذا التكريس.
عندما تُطرح الأسئلة حول هذا الموضوع على الرهبان ورجال الدين، لا بد لهم من أن يشاركوا خبرتهم وأن يعرضوا العفة على أنها دعوة من الله للنمو في المحبة والاقتداء بالمسيح ووالدته مريم العذراء. قد يصفون كيفية نضوج هذه الدعوة عبر الصلاة، والتأمل والتشاور مع غيرهم من المسيحيين المؤمنين، وسط دعم العائلة أو رفضها. يمكن أن يصف رجل الدين كيف.أضحت الفكرة تامة الوضوح والدعوة ملحة، حتى بات نكرانها يولد الحزن والألم. يفترض هذا الوضع أن يحقق الإنسان ذاته روحيا وإنسانيا بطريقة ملموسة إذا كان يعيش دعوة العفة بحق.
________________________________________________________
(24)احياء علوم الدين ، مجلد12 ص 48.
(25) في نظر المسيحية الزواج هو حقيقة انتروبولوجية وثيولوجية: انسانية والهية، انه سر مقدس يرسم مسيرة الشركة بين الاثنين، فيه يصير الانسان امتدادا لسر الله ووسيلة لنقل حبه واستمرار خلقه، لكن ليس الكل مدعوين لتكوين عائلة. هناك دعوة خاصة لبعض الاشخاص لتكريس حياتهم في البتولية ليس لانهم عاجزون او فاشلون، انما لانهم يشعرون بحب أكبر فيه يبذلون حياتهم من اجل اخوتهم بكل طاقاتهم ومشاعرهم كما فعل المسيح. وان حدث ان فشل احد من المكرسين او خان هذا العهد، هذا لا يعني ان الكل هكذا. هناك اسماء رائعة في تاريخ الكنيسة