German
English
Turkish
French
Italian
Spanish
Russian
Indonesian
Urdu
Arabic
Persian

جوهر المسيحية

أولا: تساؤلات المسلمين

 

في بعض الأحيان، قد لا تكون للمسلمين أسئلة واضحة ومحددة عن عقيدة ما، لكن - انطلاقا من الفضول أو الاهتمام الشخصي - قد يطرحون أسئلة مثل:

ما هو جوهر الديانة المسيحية ؟

ما هي أبرز خصائصها ؟

ماذا في صميمها ؟

 

يبين هذا الفصل كيف يفهم المسلم أولا، والمسيحي جوهر المسيحية.

 

ثانيا: نظرة المسلمين

النظرة العامة

المسلمون مقتنعون عامة اقتناعا راسخا بأن الإسلام خاتم الأديان الموحى بها، وأكملها وأشملها. قبل الاسلام  كانت الأديان الأخرى، خاصة اليهودية والمسيحية، صالحة ثم هيمن عليها الإسلام، الدين القويم الوحيد ووحدَهم المسلمون يخلصون في النهاية.

في الوقت عينه، نرى لدى المسلمين انفتاحا لبعض القيم الدينية المعتمدة في الحياة المسيحية. لكن لا يساهم هذا إلا في تعزيز دهشتهم: كيف يتعرف المرء على الإسلام ويدرسه، ثم يبقى على دينه (مسيحيا)، بدلا من اعتناق الإسلام برحابة صدر وامتنان، إذ في خاتم الأديان، تُستجاب جميع توقعاته. لعل المسلمون يعتقدون أن لدى المسيحيين ارتباط عاطفي ولاعقلاني بالغرب يحول دون انفتاحهم على الإسلام. أم هل من دوافع أخرى لذلك؟

يعرض بعض المسلمين الآخرين حجة أكثر تفصيلا. يقولون إن دين يسوع هو الإسلام (أي الدعوة إلى عبادة الله الواحد). لكن المسيحيين، وخاصة بولس الرسول، سرعان ما شوهوا هذه الرسالة. أما بالنسبة للبعض الآخر، فمكمن الخطأ الأساسي هو في اتحاد الدولة بالكنيسة، منذ عهد الأمبرطور قسطنطين الكبير. تعددت الحجج والفكرة واحدة: جرى إفساد وتحريف رسالة المسيح الأصلية.

 

يعتمد بعض المسلمين كذلك نظرية المنظور التاريخي، المستندة إلى بحوث بعض أخصائيي الكتاب المقدس. تشكك هذه النظرية في أسس بعض عناصر الإيمان المسيحي التاريخية التي لا يتشارك المسيحيون بها مع المسلمين، وتخص المسيح بالذات. يرفض هؤلاء المسلمون المبادئ الرئيسية للعقيدة المسيحية باعتبارها تحريفا لرسالة يسوع الحقيقية، فيقولون: الدليل على هذا التحريف هو وجود أربعة أناجيل (بدلا من إنجيل أصلي واحد) في العهد الجديد.

من وجهات النظر الشخصية جدا، نظرية كامل الحسين المصري، الطبيب والكاتب والمفكر الديني(26). يرى أن جوهر رسالة موسى يكمن في مخافة الله، وجوهر رسالة يسوع في محبة الله، أما جوهر رسالة محمد ففي أمل الفوز بالجنة. واستنادا إلى هذه النظرية، يشرح معنى المسيحية كما يلي: "هو الإيمان من أعماق الروح أن ما يدعو لفعل الخير هو محبة الله، التي تدعونا إلى محبة جميع أحباء الله، وتفادي كل ما يؤذي الغير، لأن الله يحب الناس جميعا من دون تمييز، وأخيرا الوعي أنه يستحيل حب الله إذا أذينا أحباءه وهم الآخرون"(27).

 

إذن، بين المسلمين اليوم تقييمان متعارضان للمسيحية: 

 

التقييم الإيجابي: المسيحية "ديانة أهل الكتاب" انبثقت مع اليهودية والإسلام من إبراهيم. إنها ديانة سماوية موحى بها. لذلك، فالمسيحيون قريبون من المسلمين، وليسوا أعداء لهم، وفقا لما ورد في القرآن: )وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى( [سورة المائدة:82]. هم مؤمنون، والمؤمنون جميعا إخوة (سورة الحجرات:10). هم موحدون، يصلون، ويشعرون أنهم مسؤولون عن رفاه البشرية العام إذ تملي المسيحية على أتباعها محبة الفقراء.

 

 التقييم السلبي: المسيحيون كفار ومشركون. يعبدون كائنا بشريا هو يسوع) المسيح، ويتخذونه إلها. يؤمنون بثلاثة آلهة (مريم، والمسيح والله). إيمانهم معقد للغاية خلافا للإسلام البالغ الوضوح. كتابهم المقدس معدّل ومحرّف واختفت نسخته الأصلية. هيمن الإسلام على ديانتهم. أضف أن الكنيسة قمعت حرية الفكر وأدانت العلم (مثلا: قضية جاليليو 1564-1642م). يرفض المسيحيون الإسلام وإيمانه بالتوحيد الخالص لله، ويرفضون القبول بمحمد خاتم الأنبياء. لا يتعبون أي قواعد عندما يصلون، ولا يصومون. ديانتهم منصبة على الجانب الروحي فحسب، وتطالب بأمور غير عقلانية كالامتناع عن الزواج. إنها ديانة تحتقر جسد الإنسان

 

النظرة الإسلامية المفصلة

 

يعرض القرآن موقفين متناقضين عن المسيحية: الأول يمتدحها والثاني يناهضها. وهناك اتجاهان بين المسلمين، في الماضي والحاضر على حد سواء.

 

الموقف الإيجابي: يبرز فوق كل شيء في الإعجاب اللامتناهي للشخصيات الدينية ذات المقام المتميز في المسيحية مثل: يسوع ، والدته مريم، الرسل (الحواريون)، يوحنا المعمدان (يحيا)، زكريا، وغيرهم. يشمل هذا الإعجاب الإنجيل، الكتاب المنزل من السماء على يسوع والمعترف به في القرآن، ولكن طبعا في نصه الأصلي ومعناه غير المحرف. بحسب شهادة القرآن، كان في أيام النبي محمد، مسيحيون قريبون من الإسلام. يصفهم القرآن بأنهم )أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً( [سورة المائدة: 82]، و)خَاشِعِينَ لِلَّهِ( (سورة آل عمران: 199، وقارن سورة آل عمران:110، 113، 115، سورة النساء:55، وسورة المائدة:66). لكن تبدو نظرة القرآن إلى الكهنة والرهبان متضاربة جدا (سورة المائدة:82، سورة النور: 36-37، سورة الحديد: 27 من جهة، وسورة التوبة:31-34 من جهة أخرى).

 

الموقف السلبي: له صلة أساسا بالعقيدة المسيحية حول الله والمسيح. اتخذ المسيحيون المسيح إلها، ودعوه ابن الله (سورة النساء:71؛ سورة المائدة:17، 72؛ سورة الزخرف:59، سورة التوبة:30-31). يعبدون ثلاثة آلهة، ويزعمون أن المسيح صُلب (سورة النساء:156، وقارن سورة آل عمران:55). وفوق ذلك )اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ( (سورة التوبة:31). يتطرفون في دينهم (سورة النساء: 171) وقد انقسموا إلى مذاهب بسبب اختلاف آرائهم حول شخص المسيح (سورة المائدة:14، وسورة مريم:37، وقارن سورة البقرة:133، 145، وسورة آل عمران:61). يدعون أنهم وحدهم يدخلون الجنة (سورة البقرة: 111). يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه لكن الله سيعاقبهم على ما اقترفت أيديهم من آثام. واليهود والنصارى (أهل الكتاب) "يودون لو يرتد المسلمون عن الإسلام بعد أن آمنوا، حسدا منهم بعد أن رأوا حقيقة الإسلام بأم العين" (راجع سورة البقرة 109، وقارن سورة آل عمران: 110). أضف إلى ذلك أن الرهبان (والحاخامين اليهود) "ينهشون أموال الناس" (راجع سورة التوبة: 34).

 

لا شك أن وجهات النظر المتضاربة هذه تعكس مواقف المسيحيين المتباينة من محمد والقرآن: فالبعض قبل بهما والبعض الآخر عارضهما. انعكس هذا التباين داخل القرآن نفسه: يبدو المسيحيون في بعض مقاطعه جماعة مميزة، أهل الكتاب، وفي مقاطع أخرى، هم جماعة ملعونة من الكفار والمشركين. طبعت هذه الازدواجية بالذات مواقف الإسلام حول المسيحية حتى الوقت الحاضر. فالطرق التي يحكم بها على المسيحية والمسيحيين (كفارا من جهة أو أهل كتاب وموحدين من جهة أخرى)، تعتمد إلى حد بعيد على التعايش السلمي أو المتوتر بين المسلمين والمسيحيين عبر العصور، على غرار ما كانت عليه الحال في زمن الرسول.

 

نجد وجهة النظر المزدوجة هذه حاضرة في التقليد الإسلامي وعلم الكلام، وإن كان الميل أعمق إلى التركيز على النصوص القرآنية ذات الموقف السلبي تجاه المسيحيين. علينا أن نبقي هذا الإرث المزدوج أمام الأعين: فمن ناحية هناك، إدانة تقليدية للعقائد المسيحية وتعاليمها الأخلاقية المتشاركة في الغالب مع الاستعمار الغربي الحديث، والحضارة الغربية الفاسدة المزعومة. ومن ناحية أخرى، هناك الموقف الثاني  المختلف تماما، الذي يجد جذوره في القرآن كذلك ويعتبر المسيحية من الديانات السماوية الثلاث، والمسيحيين إخوة وأخوات في الإيمان الحقيقي بالله (راجع سورة الحجرات: 10 شرط اعتبار المسيحيين من المؤمنين المذكورين في هذه الآية).

أما ضمن وجهة النظر السلبية، فلا بد من ملاحظة ثلاثة جوانب:

 

تبالغ المسيحية في طبيعة العلاقة بين الخالق وخليقته إذ تتحدث عن علاقة محبة متبادلة بين الله "الآب" والإنسان باعتباره "ابنا" له.

 

تبالغ كذلك المسيحية في التركيز على البعد الروحي في الدين الى حد حصر اهتمامها بالآخرة والروح على حساب هذا العالم والجسد. تركز كذلك هذه الديانة على الفردانية متجاهلة أهمية البعد الاجتماعي للحياة، مما يتعارض تماما مع الإسلام الذي يخاطب الإنسان في كليته.

 

وأخيرا، لا تولي المسيحية الذات الإلهية المتجلية حق الاحترام؛ لأنها تعتبر المسيح إلۤها وإنسانا في آن واحد، كما أنها تتحدث عن "مشاركة الإنسان في الحياة الإلهية".

 

ثالثا: النظرة المسيحية

 

ضمن مختلف أبعاد المسيحية المعروضة، نختار التركيز على الجانبين التاليين:

 

المسيحية، طريق المحبة

 

أطلقت كلمة "مسيحي" على أتباع يسوع المسيح على يد غير اليهود في إنطاكيا (جنوبي شرقي تركيا) في 43م (أعمال الرسل 25:11). المسيحي هو من يؤمن بأن يسوع، نبي الناصرة، صانع الخير (أعمال الرسل: 38:10)، الذي مات على الصليب ثم قام من بين الأموات هو المسيح، القادم من عند الله ليكون وحي الله الذاتي الخاتم والمطلق إلى الجنس البشري. يسعى المسيحيون إلى عيش علاقتهم بالله والناس، بقوة يسوع وعلى مثاله، طبقا لمشيئة الله وفي خدمة الآخرين. ومشيئة الله أن نكن لجميع الناس –المدعوين ليصبحوا أبناء الله- المحبة نفسها. نحن مدعوون لأن نحب الله وكل إنسان، رجلا كان أم امرأة.

يؤمن المسيحيون أن المسيح الذي مات على الصليب، قام من بين الأموات، ويشارك اليوم في مجد الله الآب، هو حي وحاضر دائما في كل مكان.

أثناء حياته على هذه الأرض، كشف يسوع أن الله هو الآب: آب له، للمسيحيين وللناس أجمعين (قارن يوحنا 18:5، 17:20، ومتى 9:6 والنصوص الموازية). مشيئة الله الآب أن يدرك جميع الناس أنهم أبناء له. يا لها من صورة قوية اختارها يسوع للإعراب عن محبة الله والجنس البشري: صورة الآب وأبنائه! لكن بالنسبة للمسيحيين، لا يعني هذا الكلام وجود مجرد أبوة بشرية بالمعنى الحسي وحسب بين الله وخليقته. يُحيي المسيح، بطريقته الخاصة، جانبا جوهريا من مفهوم الله في العهد القديم (التوراة): يكن الله لشعبه محبة جمّة، كالأم لأبنائها (أشعيا 14:49-15، وقارن سفر هوشع 1:11-4) والزوج لزوجته وإن خانته (سفر هوشع 1-3، حزقيال:16) والرجل لخطيبته (نشيد الأناشيد). يكشف المسيح عن حب الله للبشر أجمعين بلا شروط. وقد ذهب المسيح  الى أبعد ما كان يمكن ان يتخيله  الناس في زمانه، إذ كانوا يظنون أن محبة الله تقتصر على اليهود، لا بل على الصالحين منهم. وبحسب هذا المفهوم القديم، يُقصى غير اليهود من الجنة، إضافة إلى الخاطئين من اليهود (كجابي الضرائب) والمصابين بأمراض معدية مثل البرص.

أما يسوع، فقد قلب هذا المفهوم القديم رأسا على عقب مبشرا بأن الله يتوجه الى الناس أجمعين بالمحبة نفسها. الله، آب لكل الناس، يحبهم جميعا من دون تمييز. وإن وهب الله محبة خاصة، فللمنبوذين والمدانين في المجتمع: الخطأة (التائبين)، وغير اليهود: "إِنَّ الجُباةَ والبَغايا يَتَقَدَّمونَكم إِلى مَلَكوتِ الله".  (متى 31:21، قارن 10:8، لوقا 36:7-50).

يوضح هذا الكلام موقف المسيح الذي، طبقا لوحي الله الآب الرحوم الأزلي، رحب دوما بالخطأة والفقراء الذين قصدوه ليجدوا عنده سبيلا لإشباع حاجاتهم المادية والروحية. لم يرفض المسيح أيا كان، وقبل الدعوات من الطبقة الراقية والفريسيين، أو جباة الضرائب والخطاة على حد سواء. ألم يُنتقد بسبب تناوله الطعام مع الخطأة (متى 10:8، 19:11، 31:21، 10:9-13، لوقا 36:7-50، 1:15-2، 7، 10، 19)؟ وقال في هذا المعنى تحديدا: "فإِنِّي ما جِئتُ لأَدعُوَ الأَبْرارَ، بَلِ الخاطِئين" (متى 13:9-36، مرقس 17:2، ولوقا 32:5). كان قاسيا مع المتفاخرين "بفضيلتهم"، المدينين للفقراء وغير اليهود (متى 3:23، 36:13، لوقا 24:11-52، 9:18-14)، فعلّم قائلا: "هكذا يكونُ الفَرَحُ في السَّماءِ بِخاطِئٍ واحِدٍ يَتوبُ أَكثَرَ مِنه بِتِسعَةٍ وتِسعينَ مِنَ الأَبرارِ لا يَحتاجونَ إِلى التَّوبَة".  (لوقا 7:5، 10). ويقدم الكتاب المقدس نموذجا رائعا عن موقف الله تجاه الخطأة في مثل الابن الضال (لوقا 11:15-32) وغيره من الأمثال مغزاها الأساسي بيان رحمة الله ورأفته وغفرانه (لوقا 15-13). جاهد المسيح ضد كل ما يفصل البشر بين "أبرار" و"خطأة". حتى أنه تجاوز بعضا من أكثر الأحكام قداسة في الشريعة اليهودية (وجعلها نسبيّة بعد أن اعتبرت مطلقة)، منها تقليد يوم السبت (متى 8:12، مرقس 27:2، ويوحنا 6:5)، وحصر العبادة في هيكل أورشليم (يوحنا 13:2-17، 20:4-21). فقال مثلا: "إِن السَّبتَ جُعِلَ لِلإِنسان، وما جُعِلَ الإِنسانُ لِلسَّبت" (مرقس 27:2) وان الله " يعبد بالروح والحق" (يوحنا 4/23). وإذا حكم شيوخ اليهود عليه بالموت وضغطوا على الرومان ليعدموه، فذلك لأنه بشّر باستعداد الله للغفران وتقبل توبة المؤمنين بلا قيود. تضع هذه الرسالة أسس سلطان هؤلاء الزعماء على المحك. بدا ظاهريا أن الله الآب يقف إلى جانب الزعماء، إذ سمح لهم بتعليق المسيح على الصليب، لكن الواقع مختلف، فأن الله لم يتخل عن المسيح ولم يتركه في مثوى الأموات (قارن: أعمال الرسل 27:2) بل أقامه من بين الأموات وجعل منه "البَدْءُ والبِكْرُ مِن بَينِ الأَموات" (رسالة بولس إلى أهل قولسي 18:1، أعمال الرسل 23:26، وسفر الرؤيا 5:1)، وجعله على يمينه "ونَحنُ بِأَجمَعِنا شُهودٌ على ذلك" كما قال بطرس الرسول (أعمال الرسل 32:2). لذلك فالمسيح رب حقيقي، أنيطت به سلطة الله الذي أكد بذاته على صحة رسالته، وحقيقة كل ما بشّر به عن الله والبشرية.

هذه رسالة المحبة التي لا شاطئ يحدها، محبة الله الذي أحب البشر أجمعين ودعاهم ليكونوا أبناء له، "لأَنَّه يُطلِعُ شَمْسَه على الأَشرارِ والأَخيار، ويُنزِلُ المَطَرَ على الأَبرارِ والفُجَّار" (متى 45:5).

 

من الطبيعي بالتالي أن يعلن المسيح بأن المحبة هي أكبر الوصايا وأولها في الشريعة: "أَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ وكُلِّ نَفْسِكَ وكُلِّ ذِهِنكَ...أَحبِبْ قريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ." (متى 37:22-39). ترتبط محبة الله بمحبة الغير منذ العهد القديم (سفر تثنية الاشتراع 5:6، سفر الأحبار 18:19)، ويأخذ المسيح هذا البعد إلى آفاق جديدة. يعطي هذه "الوصية الجديدة" (يوحنا 34:13)، ليس لأن بها "تَرتَبِطُ الشَّريعَةُ كُلُّها والأَنِبياء" (متى 40:22، 12:7، لوقا 31:16) فحسب، بل أيضا لأن من خلال المسيح تكتسب محبة الله والغير معنى جديدا.

تتطلب محبة الله الآب أن نحب الناس أجمعين، لأن الله يحبهم فعلا كأنهم أبناءه الحقيقيين. في زمن المسيح، لم يكن "الآخر" بالنسبة لليهود إلا اليهود الآخرين، أما بالنسبة ليسوع، فلا بد توسيع دائرة هذه المحبة إلى شعوب الأرض وحب الآخر مهما كان، بمن فيه الخطاة وحتى الأعداء. لا بل بدا تدريجيا واضحا جليا ليسوع والمسيحيين الأوائل أنه حتى غير اليهود وأتباع الأديان الأخرى (مثل السامريين والكنعانيين-الفينيقيين والرومان) مشمولين في وصية المحبة هذه. كان على تلاميذ المسيح أن يثبتوا على هذه المحبة، ويحبوا بعضهم بعضا إذ قال المسيح: "إذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضاً عَرَف النَّاسُ جَميعاً أَنَّكُم تَلاميذي " (يوحنا 35:13، 12:15-17). وهذه المحبة، تشمل العدو اللدود والمضطهد الظالم:

 

"سَمِعتُم أَنَّه قِيل: "أَحْبِبْ قَريبَك وأَبْغِضْ عَدُوَّك". أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم : أَحِبُّوا أَعداءَكم وصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم، لِتَصيروا بني أَبيكُمُ الَّذي في السَّمَوات، لأَنَّه يُطلِعُ شَمْسَه على الأَشرارِ والأَخيار، ويُنزِلُ المَطَرَ على الأَبرارِ والفُجَّار. فإِن أَحْبَبْتُم مَن يُحِبُّكُم، فأَيُّ أَجْرٍ لكم؟ أَوَلَيسَ الجُباةُ يفعَلونَ ذلك؟ وإِن سلَّمتُم على إِخواِنكم وَحدَهم، فأَيَّ زِيادةٍ فعَلتُم؟ vsx\أَوَلَيسَ الوَثَنِيُّونَ يَفعَلونَ ذلك؟ فكونوا أَنتُم كامِلين، كما أَنَّ أَباكُمُ السَّماويَّ كامِل" (متى 43:5-48).

 

على المسيحيين مجازاة الشر بالخير، ولا الشر بالشر (متى 38:5-42) وعليهم العفو من دون حدّ أو قيد والغفران سبعين مرة سبع مرات (متى 21:18-22) مقتدين بالله الغافر (متى 12:6 في الصلاة الربانية) وبالمسيح الذي غفر لمن سمّره على الصلب (لوقا 34:23). هذا لا يعني البتة عدم الاكتراث أمام وقوع الشر والظلم، ولا الموافقة عليهما، بل مسامحة الظالم والشرير لأن وحده الغفران يحرر الناس من الشر ويصالحهم مع الله والآخرين وليس الثأر والعنف!

 

لا تعرف هذه المحبة حدودا لأنها فعلا صورة عن محبة الله الغافرة والمصالحة المولدة للسلام. كذلك، هي هبة الذات إلى الله والآخرين. لا تسعى المحبة لتحقيق أي مبتغى ذاتي. بل هي هبة الذات والغفران. "لَيسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعظمُ مِن أَن يَبذِلَ نَفَسَه في سَبيلِ أَحِبَّائِه" (يوحنا 13:15). وأخيرا، لم يكتف المسيح بمجرد الكلام عن المحبة، بل عاشها وبذل حياته في سبيل الآخرين، بمن فيهم أعداءه الذين أسلموه وغفر لهم على الصليب.

 

لم يدرك الرسل والمسيحيون الأوائل إلا بعد موت يسوع وقيامته، أن حجر الزاوية لحياة المسيح وتعاليمه هو المحبة: محبة الله لنا، ومحبتنا له، والمحبة اللامحدودة لجميع الناس. بل ذهبوا  الى حد القول إن معيار قياس محبة الإنسان لله هي محبته للآخرين (1 متى فصل 25، يوحنا 20:4-21 ومجمل الرسالة)، محبة لا تكون "بِالكلام ولا بِاللِّسان بل بالعَمَلِ والحَقّ" (1 يوحنا 18:13)." وإِنَّما عَرَفْنا المَحبَّة بِأَنَّ ذاكَ قد بَذَلَ نفْسَه في سَبيلنِا. فعلَينا نَحنُ أَيضًا أَن نَبذُلَ نُفوسَنا في سَبيلِ إِخوَتِنا" (1 يوحنا 16:3). والواقع أن المسيحيين الأوائل عاشوا حياة المحبة الأخوية وسط جماعتهم (أعمال الرسل 42:2-46، 7:20-11). بالتأمل في حياة المسيح ورسالته، وعلى ضوء إلهام الروح القدس، بدأ التلاميذ أخيرا يدركون ما يلي: إذا أمكن للمسيح، كما ورد سابقا، أن يكشف بهذا الوضوح جوهر المحبة الإلهية، وأن يعيش مستجيبا لهذه المحبة، فذلك لأنه "ابن الله". بطريقة فريدة ومميزة جدا، أرسله الآب لينشر هذه المحبة بالذات. لأن الله محبة (1 يوحنا 8:4-16) و"ما ظَهَرَت بِه مَحبَّةُ اللهِ بَينَنا هو أَنَّ اللهَ أَرسَلَ ابنَه الوَحيدَ إِلى العالَم لِنَحْيا بِه" (1 يوحنا 9:4). هذا الإله المفعم بالمحبة "صارَ بَشَراً فسَكَنَ بَينَنا فرأَينا مَجدَه" (يوحنا 14:1). يسوع، كلمة الله، وحي محبة الله لأنه ابنه. طبعا لا بد للبشرية جمعاء أن تستقبل وحي المحبة هذا بالمسيح وفيه، وأن تترجمه إلى أفعال، حتى نهاية الزمان، بقوة الله، أي الروح القدس الفاعل داخل الكنيسة وخارجها.

 

يركز بولس الرسول على أن وحده الروح القدس الذي أرسله المسيح بعد قيامته (يوحنا 37:7-38، 7:16-15)، يمكننا أن ندعو الله "أبا"   ( الرسالة إلى أهل روما 15:8، والرسالة إلى الغلاطيين 6:4)، وأن نحبه ونحب الآخرين تماما مثلما أحبنا الله (الرسالة إلى أهل تسالونيقي 9:4، الرسالة إلى أهل روما 5:5، 15:30، وقارن: 1 يوحنا 7:4). كذلك، في "نشيد المحبة"، يؤكد بولس على أن كل أعمالنا تستمد قيمتها من المحبة التي من دونها، لا قيمة لأعظم الأعمال.

 

برزت العقائد المسيحية الرسمية في القرون المسيحية الأولى فعكست أهمية يسوع المسيح، والدليل على ذلك الجدليات بين أبرز التيارات الدينية والفلسفية آنذاك. فقد سعت إلى الدفاع عن إيمان العهد الجديد وسط سياق متغير.

تعني المسيحية إذا: سلوك طريق المحبة التي مصدرها الله نفسه (1 يوحنا 7:4) والتي أوحيت إلينا في المسيح، ابن الآب، في تبشيره وحياته، في موته وقيامته. كنيسة المسيح مبنية على هذه المحبة، فهي مصدر حياتها.

على صعيد آخر، ففي ممارسة السلطة في الكنيسة، في المقام الأول، خدمة مارستها جماعة تلاميذ يسوع (عيسى)، استنادا إلى مثال المحبة الحي في ذات الله. تتطلب بالتالي ممارسة هذه السلطة أن نكن المحبة للمسيح المستعد للتجلي في أصعب الخدمة (قارن حوار المسيح مع بطرس في إنجيل يوحنا 15:21-17: "يا بطرس ابن يونا، أتحبني ؟ ... إرع حملاني"). لكن على جماعة المحبة المسيحية هذه، ألا تتسم أبدا بالنرجسية، فتنطوي على ذاتها وحسب. هي في الأساس جماعة شهادة "ليؤمن العالم" (يوحنا 21:17). من واجب كل مسيحي أو جماعة مسيحية، أن يكون شاهدا على المحبة في العالم، وأن يلتزم بالعدل والمصالحة والسلام. إنها لفكرة سامية، قلما تتحقق بكليتها على الميدان، ولكنها المثال الذي يجدر على كل مسيحيي أن يسعى إليه، كل بحسب النعم (الوزنات) المعطاة له. وعلى مرّ التاريخ، فشل للأسف المسيحيون عامة والكنيسة خاصة، في أن يكونوا أمناء للفكرة السامية هذه؛ لا بد من الاعتراف صراحة بهذا الواقع الأليم(78). مع ذلك، تبقى البشرى  (بشارة المسيح) حاضرة فاعلة، الأمس كما اليوم. تحثّ الكنيسة على العيش بحكم هذه المحبة، ساعية لتوسيع انتشارها عبر العالم، محطمة كل العوائق (العنصرية، الاجتماعية أو الدينية) التي تمزق الجنس البشري، ومكافحة ضد جذور الخطايا: الأنانية والكراهية. يدعو المسيح كل مسيحي ليلتزم التزاما غير مشروط من أجل انتصار المحبة.

 

ملحق: الإسلام ومحبة الله

 

تمثل محبة الله والغير الوصية الجوهرية المركزية في المسيحية. ولا يعني الإقرار بهذا الواقع البتة، أن الأديان الأخرى، وخاصة الإسلام، لا تعيها، أو أن المسيحيين الحقيقيين وحدهم المعنيين بهذه المحبة ويعيشون بقوتها. والواقع أن في الإسلام نوع من المحبة، يمارسه كثير من المسلمين من دون صلة بتعاليم المسيح والمسيحية.

 

قليلة هي الآيات القرآنية التي تتحدث بوضوح عن محبة الله، سواء محبة الله للناس (الله هو الودود: المتصف باللطف والمحبة) (سورة هود: 90، سورة البروج: 14) من جهة إذ "ألقى" الله محبته على موسى (سورة طه: 39)، أو من جهة أخرى محبة الناس لله (أربع إشارات في: سورة البقرة:165، آل عمران:31، المائدة:54). هناك كذلك آية تتحدث عن المحبة المتبادلة بين الله والمؤمنين )بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ( [المائدة: 54]. جاءت هذه الآية في سياق الكلام عن الجهاد الذي يفهم هنا على أنه النضال المادي ضد الكفار:"الحرب المقدسة". لكن لا تكفي هذه الآيات القرآنية للجزم إن محبة الله للناس، ومحبة الناس لله، من المواضيع المركزية في الإسلام. أما الموضوع المركزي في الرسالة القرآنية، فهو الله الواحد الأوحد، العادل الرحيم. تبقى المحبة من المواضيع المدروسة في القرآن والحديث وتعليم الإسلام الكلاسيكي، مما يوفر مضمونا ومصطلحات يستند الإسلام إليهما في التقليد الروحي.

 

يعود هذا التقليد الروحي أساسا إلى المتصوفين المسلمين. منذ المتصوفة المميزة رابعة (العدوية) في القرن السابع للميلاد، جعل الصوفيون من محبة الله (وليس محبة الله للإنسان) المحور الأساسي في سعيهم نحو الله. أدخل كبار متصوفي العصور الإسلامية  الاولى"طريق المحبة" هذه إلى صميم الإسلام السني، بفضل الغزالي (متوفي عام 1111م) الذي أكد على أن الله وحده جدير بالمحبة، ورأى في هذه الأخيرة ذروة تطلعه الروحي وغايته. انتشرت لاحقا، عبر العالم الإسلامي، الفكرة السامية لمحبة الله بفضل الجماعات الإسلامية، وباتت موضوع تأمل مهم مقبول رسميا في الإسلام.

تختلف محبة البشر لله عن محبة الله للإنسان وتحمل خصائص إسلامية نمطية، إذ يُنظر إلى المحبة في الإسلام على أنها شوق إلى ما يفتقر إليه المرء، والله بريء تماما من مثل هذا الافتقار إلى الغير. وفي الإدراك الإسلامي، المحبة شوق إلى الله وسعي إلى التقرب إليه، وأي فكرة اتحاد في المحبة بين الله والإنسان مستبعدة تماما. في النهاية، محبة الله تستدعي محبة الغير، لكن لا يجوز بأي حال وضع محبة أي من المخلوقات، في ذات المكانة مع محبة الخالق. ورأى متصوفون كثر، بمن فيهم رابعة والغزالي، أنه لا بد من الابتعاد عن جميع المخلوقات لتكريس الذات كليا لله.

 

المسيحية، طريق لتحقق الذات

 

يرى المؤمنون، المسيحيون منهم والمسلمون، البشر على أنهم خليقة الله: خلقهم بيده على صورته ومثاله، وقضى بأن يرجعوا إليه. هذه الدعوة الأصلية لكل فرد من الجنس البشري، لا بل للخليقة جمعاء إذ تنتظر بفارغ الصبر التحرر من عبودية الفساد لتنعم، في النهاية، بمجد الله (الرسالة إلى أهل روما 19:8-25، القرآن: سورة التكوير، سورة الانفطار، سورة الزلزلة، سورة القارعة). ترسي هذه الدعوة المشتركة أسس شبه قاعدية بين شعوب الأرض تسمو فوق العرق والوضع الاجتماعي والدين.

يتجاوب موقف القرآن في الإسلام مع موقف المسيحية المتمثل في شخص المسيح نفسه، كلمة الله. لا تعرض بالتالي المسيحية تعاليم فحسب، بل طريقا، طريق تلاميذ المسيح. وكل إنسان مدعو لأن يصبح ابن الله بالتبني في المسيح (الرسالة إلى أهل أفسس 5:1). وبين الخالق وخليقته يسيطر حب متبادل: فالخالق هو الآب، والبشر أبناؤه، وتكون هذه العلاقة الحميمة بين الله والبشر أعلى منزلة من تلك التي تربط عبدا بربه. المسيحي مدعو لمحبة الله والبشر أجمعين، لأنهم جميعا إخوة وأخوات للمسيح وأبناء للآب.

إذا يشكل حب الله والآخر، السبيل الوحيد الحق للكمال. تذهب هذه العلاقة الى  أبعد من الحب الطبيعي بين الناس، لأن المسيح أوصانا ألا نجازي الشر بالشر، بل أن نَثبت على العفو والغفران وحتى أن نحب أعداءنا. لا قدرة للإنسان على المحبة بهذه الطريقة، لأنها هبة من الله، تولد فينا القدرة على حب إخوتنا وأخواتنا، كما الله أحبهم. عاش المسيح نفسه هذه المحبة حتى بذل نفسه وعُلّق على الصليب. أما نكران هذا الإيمان بالله – مهما كانت الدوافع الشخصية وراء هذا النكران - فيجرد الإنسان من علة وجودهم.

بشّر يسوع بالملكوت، الذي بدأ يتحقق منذ الآن بطريقة أو بأخرى. لكن يبقى الملكوت محطة لم نبلغها ووعد لم يتحقق كليا بعد. ليس الكمال من هذا العالم، لكن الأمل في تحقيقه هو الطاقة العظيمة التي تدفع الجنس البشري إلى الأمام. ويبقى التقدم بكل معناه، دائما ممكنا إلى نهاية الأزمان بالنسبة للعالم وإلى ساعة الموت بالنسبة للإنسان. يرى الكثيرون في الموت دليلا على عبثية حياة الإنسان وفراغها. أما بالنسبة للمؤمن، فموت المسيح على الصليب هو الطريق نحو القيامة له وللبشر أجمعين، إذ وطئ المسيح الموت بالموت. تفتح الآخرة (آخرة الإنسان والعالم) الباب أمام اكتمال الحياة الأبدية. وعندها يلقى كل إنسان وجه الآب في الجنة، أورشليم الجديدة. وهناك، تلقى البشرية والخليقة اكتمالها (رسالة بولس إلى أهل روما 22:8-23).

تكمن قيمة الإنسان في كونه خلق على صـورة الله ومثاله (سفر التكوين 26:1-27، المقتبس في 1 كورنثوس 7:11، الرسالة إلى أهل قولسي 7:3، رسالة يعقوب 9:3) وعلى صورة المسيح (يوحنا 3:1، الرسالة إلى أهل روما 29:8، 1 كورنثوس 6:8، الرسالة إلى أهل قولسي 16:1، والرسالة إلى العبرانيين 2:1). لهذا على الإنسان إلا يمسي البتة وسيلة لأي غاية. لا بد لشتى السلطات المدنية والدينية والاجتماعية والسياسية، من احترام حقوقه

 

لكن لا تكتمل دعوة الإنسان إلا وسط مجتمع من الأحرار والمستقلين. ولذلك تلعب الأسرة وشتى الجماعات البشرية دورا بارزا على المستويين الوطني والدولي. لا بد أن تكون حقوق الفرد والجماعة متوازنة وسط علاقات موزونة بعناية. تخدم الجماعات البشرية، العلمانية منها والدينية، المصلحة العامة بقدر ما تقدر قيمة الفرد.

 

 

ملحق : الإسلام والإنسانية 

     

ليست المسيحية الديانة الوحيدة التي تعرض نظرة شاملة عن البشرية، أصلها ومصيرها. يقدم الإسلام نظرته أيضا. بين الإنسانية (Humanism) في المسيحية والإسلام قواسم مشتركة عديدة وبعض أوجه الاختلاف إذ في قلب الإنسانية المسيحية نجد شخص المسيح، أما في قلب الإنسانية الإسلامية، فنجد  كتاب القرآن.

 

في تعاليم القرآن، خلق الله آدم بيديه (سورة ص: 75) من الطين (سورة الأعراف: 12، وقارن سورة المؤمنون: 12، سورة السجدة: 7). ويذكر كذلك خلق الإنسان من المني (سورة الحج: 5، سورة الحج: 8، سورة عبس: 19). نفخ الله روحه في آدم (سورة الحجر:29، سورة السجدة: 9، وسورة ص:72). ويذكر الحديث الشهير في ألفاظ تتماثل ما 

جاء في سفر التكوين 21:1، من خلق الإنسان على صورة الله ومثاله 28

 

والمسيح نفسه في الانجيل يعود الى هذا  النص في تاكيده على المساواة  وعلى وحدة الزواج. ففي نظره لا يوجد حاكم ومحكوم ، تابع ومتبوع. "أَما قَرأتُم أَنَّ الخالِقَ مُنذُ البَدءِ جَعلَهما ذَكَراً وَأُنثى وقال:لِذَلِكَ يَترُكُ الرَّجُلُ أَباهُ وأُمَّه ويَلزَمُ امرَأَتَه ويصيرُ الاثْنانِ جسَداً واحداً. فلا يكونانِ اثنَينِ بعدَ ذلكَ، بل جَسَدٌ واحد. فما جمَعَه الله فلا يُفرِّقنَّه الإِنسان".

 ان الله في نظر المسيحية خلق الذكر والانثى كجنس gender   في كامل الحياة الانسانية متساويين. فهما شريكان متكاملان في الخليقة الاولى وفي الخلاص الذي حققه المسيح. فلا فرق  بين ذكر وانثى         ( غلاطية 3/28). الواحد يحتاج الى الاخر والواحد يكمل الاخر والواحد يؤثر في الاخر. ليس الرجل والمرأة بعد في تضاد ولا تسلط لاحدهما على الاخر لان ثنايتهما  تنبع من وحدة الله الاب. وهذه الرؤية تنفي اصلا من مقاصد الله كل تفرقة على اساس الجنس، أكان ذلك لصالح نظام سيادة المرأة، ام لصالح نظام سيادة الرجل. وعليه فان كلّ الاعتبارات القائلة بدونيّة المرأة لا تاتي من الله الخالق. ومع مريم المجدلية و السامرية و المرأة الزانية وقف  المسيح ضد من اتهموها قائلا:  من  منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر( يوحنا8: 3-6)... وفي رسالته  كانت النسوة في تجواله التبشيري ويذكر لنا الانجيل بعض الاسماء.  مرتا ومريم..ورفع شخصيتها. لكن ايضا في العهد القديم هناك اسفار مهمة  كسفر راعوث واستير ويهوديث  هي اسفار امانة محبة وعناية لحد يفوق المتوقع اجتماعيا وقانونيا ودينيا.

والنظر القائمة المغلوطة هي تركة النظام الابوي وبلادة عادات وتقاليد المجتمع التي تنظر الى المرأة كائنا أدنى.. مما جعلها يمارس ضدها التمييز والعنف.

قال البابا يوحنا بولس الثاني في الارشاد الرسولي- رجاء جديد للبنان 1997 : " تستحق النساء عناية خاصّة تكفل لهن مراعاة حقوقهن في مختلف قطاعات الحياة الاجتماعية والوطنية، ذلك أن الكنيسة، في عقيدتها الانتروبولوجية وتعليمها تؤكد المساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة، وهي مساواة اساسها ان كل كائن بشري مخلوق على صورة الله" (76-77).

على ضوء ما تقدم في نظر المسيحية  المرأة شريكة متساوية لها حقوق في السياسة والحياة الاجتماعية – الزواج- تكوين اسرة- والاقتصادية والعمل والتعليم.. وعضويتها كعضوية الرجل دونما تمييز. 

 

_____________________________________________________________

(26) الوادي المقدس، القاهرة، دار المعارف 1968 ص 29

(27) المرجع نفسه ص 31.

(28)  المسيحية لم تؤمن  قط بدونيّة المرأة  وثانويّةِ اهميِّتها ولا ان  هرمية المفهوم اللاهوتي للخليقة يجعلها في المرتبة الثانية من حيث القيمة الانسانية والمقدرة. فلقد جاء في الكتاب المقدس، في سفر التكوين  ان الله" خلق الانسان على صورته ومثاله" 0تكوين 1/27). فكانت صورة الله في الانسان ادم وايضا في الانسان حواء – المرأة. وهي صورة الانسان ذاتها في العهد الجديد – خليقة جديدة تتغيير من مجد الى مجد    ( 1 كورنتس 11/11).

خُلق الإنسان لعبادة الله الواحد والتقرب إليه وخدمته وتسبيحه وشكره (سورة النساء:1، سورة الذاريات، سورة آل عمران: 190-191، سورة الأعراف: 172، وسورة الروم: 17-18). الإنسان كائن فانٍ لكنه عاص لله، ومع ذلك فهو مكلف بالشهادة لله الواحد (سورة الأعراف: 172-173).

من يرفض الإيمان بالله الواحد أشبه بالحيوانات (سورة الفرقان: 44، سورة الأنفال: 55). وللإنسان منزلة عالية، فمثلا، لم يعلم الله أسماء الحيوانات للملائكة، بل لآدم (سورة البقرة:31-33). لذلك أمر الله الملائكة بالسجود له مباشرة بعد خلقه. وحده الشيطان (إبليس) أبى أن يفعل (سورة الحجر:31، سورة الكهف:50، سورة مريم:44، سورة طه:116، وسورة ص: 74). وأعطى الله الإنسان سلطانا على الخليقة وأخضعها لمشيئته وحاجاته (سورة إبراهيم: 32-33، سورة النحل: 12-14، وسورة الحج:65). الإنسان "خليفة" الله على الأرض (سورة البقرة: 30) وهي عبارة غالبا ما يرددها المؤلفون المعاصرون للدلالة على الإنسانية في الإسلام.


Contact us

J. Prof. Dr. T. Specker,
Prof. Dr. Christian W. Troll,

Kolleg Sankt Georgen
Offenbacher Landstr. 224
D-60599 Frankfurt
Mail: fragen[ät]antwortenanmuslime.com

More about the Authors?