German
English
Turkish
French
Italian
Spanish
Russian
Indonesian
Urdu
Arabic
Persian

حوار ورسالة

وجهة النظر المسيحيّة

 

1- الرسالة

 

محبّة الله

الله محبّة (1 يوحنّا 4: 8، 16). وقد ظهرت محبّته الخلاصيّة وأعطيَت للناس بيسوع المسيح. إنّها حاضرة وتعمل في العالم بالروح القدس. وعلى الكنيسة أن تكون علامةً حيّةً على هذه المحبّة كي تجعلها قاعدة حياةٍ لكلّ المسيحيّين. لقد أراد المسيح أن تكون رسالة الكنيسة رسالة محبّة وهو منبعها ومآلها ونموذجها بحيث تصير قاعدة حياةٍ للجميع. وأراد أيضًا أن تكون رسالتها إرسالًا للمحبّة، لأنّها تجد في المحبّة منبعها وغايتها وطريقة ممارستها للرسالة.

على كلّ بُعدٍ في الكنيسة وكلّ نشاطٍ من نشاطاتها أن يكون مشبعًا بالمحبّة وفاءً للمسيح الّذي أراد هذه الرسالة ويتابع إحياءها وجعلها ممكنة في التاريخ.

 

هبة الكنيسة

 

كما أشار المجمع الفاتيكانيّ الثاني، الكنيسة هي الشعب المسيحانيّ، التجمّع المرئيّ والجماعة الروحيّة، الشعب الّذي في مسيرة حجٍّ نحو كلّ البشريّة الّتي يشاركها خبرتها. على الكنيسة أن تكون خميرة المجتمع وروحه لتجدّده في المسيح وتجعله عائلة الله. «وشريعة هذا الشعب المسيحانيّ الجديدة هي المحبّة كما أحبّ المسيح. ومصيره ملكوت الله الّذي أسّسه الله نفسه على الأرض» (الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة، 9). «الكنيسة رسوليّة طوال حجّها على الأرض» (الفاتيكاني الثاني، مرسوم في نشاط الكنيسة الإرساليّ، 9؛ راجع الرقم 6، 35-36). الصفة المسكونيّة هي بالنسبة إلى كلّ مسيحيّ تعبير طبيعيّ عن الإيمان المُعاش. السلوك الرسوليّ هو التعبير الطبيعيّ لكلّ مسيحيّ عن إيمانه الحي.

 

رسالة الكنيسة

 

«تتمّ رسالة الكنيسة إذًا بعمليّةٍ تصير من خلالها حاضرة فعلًا لجميع الناس وجميع الشعوي، من خلال الطاعة لأمر المسيح وبدفعٍ من نعمة الروح القدس ...» (الفاتيكاني الثاني، مرسوم في نشاط الكنيسة الإرساليّ، 5). وهذه المهمّة واحدة، ولكنّها تُمارَس بطرائق مختلفة بحسب الظروف المحيطة بها بالتفصيل.

«وتتعلّق هذه الظروف إمّا بالكنيسة أو الشعوب أو المجموعات البشريّة أو الناس الّذين تتوجّه إليهم هذه الرسالة ... فعلى الأفعال والوسائل المتكيّفة أن تتوافق مع كلّ ظرفٍ وحالة ... فالهدف الأساسيّ لهذا النشاط الرسوليّ هو التبشير وتأسيس الكنيسة في الشعوب والجماعات حيث ليس لها جذور بعدُ» (المرجع السابق 6). وهناك تصريحات أخرى للمجمع نفسه تؤكّد بشدّة على أنّ العمل من أجل نشر الملكوت وقيمه بين جميع الناس هو أيضًا جزءٌ من رسالة الكنيسة (راجع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة، 5؛ الكنيسة في عالم اليوم، 39؛ الحركة المسكونيّة، 2؛ الحرّيّة الدينيّة، 41؛ رسالة العلمانيّين، 5).

 

مختلف انتشارات الرسالة وأبعادها

 

وصفت مجمل النصوص المجمعيّة للمجمع الفاتيكاني الثاني مختلف انتشارات وأبعاد الرسالة ونلاحظ في أعمال ووثائق السلطة الكنسيّة، كسينودوس الأساقفة عن العدالة الاجتماعيّة 1971، وعن الكرازة 1974، وعن التعليم المسيحيّ 1977، وفي تصريحاتٍ عديدة لبولس السادس ويوحنّا بولس االثاني، وكذلك مجامع أساقفة آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينيّة،أنّ هذه كلّها طوّرت أبعادًا أخرى لعقيدة المجمع مثل الالتزام لأجل الإنسان، ولأجل العدالة الاجتماعيّة، ولأجل حرّيّة الإنسان وحقوقه، وكذلك لأجل تغيير البنى الاجتماعيّة الّتي هي «عناصر أساسيّة لرسالتها، ولا يمكن فصلها عنها» (يوحنّا بولس الثاني، الرسالة العامّة، فادي الإنسان، 4 آذار (مارس) 1979، رقم 15).

 

واقع لكنّه معقّد

 

تعي الكنيسة أنّ الواقع واحد ولكنّه معقّد وخاص. يمكننا أن نعطي مركّباته الأساسيّة. فالرسالة تصير واقعيّة بسبب حضور المسيحيّين البسيط وشهادتهم (راجع بولس السادس، إرشاد رسولي، إعلان الإنجيل، 8 كانون الأوّل (ديسمبر) 1975، رقم 12)، حتّى وإن كان ينبغي الإقرار بأنّنا «نحمل هذا الكنز في آنيةٍ من خزف» (2 كورنتُس 4: 7)، وأنّ المسافة بين ما يظهر المسيحيّ عليه وما يدّعي أنّه هو تظلّ غير قابلةٍ للعبور.

ويُضاف إلى ذلك أيضًا الالتزام العمليّ فبخدمة الإنسانيّة وكلّ الأعمال لصالح التقدّم الاجتماعيّ، بما فيها مكافحة الفقر والبنى الناتجة عنه. ويجب أيصًا ذكر الحياة الليترجيّة والصلاة والتأمّل، وهي شهادات مجيدة لصالح علاقةٍ حيّة ومحرِّرة مع الله الحيّ والحقيقيّ الّذي يدعونا إلى ملكوته ومجده (راجع سفر الرؤيا 2: 42).

وهناك أيضًا الحوار الّذي يلتقي فيه المسيحيّون أتباع التقاليد الدينيّة الأخرى، ويبحثون معًا عن الحقيقة ويتعاونون في أعمالٍ تهمّهم معًا. ويجب أن نتكلّم أيضًا على الإعلان والتعليم المسيحيّ، حيث تُعلَنُ بشرى الإنجيل، وحيث ينتج عن ذلك تعمّق في الحياة والثقافة.

 

مهمّة مشتركة

 

تتحمّل كلّ كنيسة محلّيّة مسؤوليّة مجمل الرسالة. وكذلك فإنّ كلّ مسيحيّ مدعوّ بإيمانه ومعموديّته إلى التعاون بطريقةٍ أو بأخرى. فتطلّبات الوضع والمكانة الخاصّة لشعب الله وموهبته الشخصيّة تسمح للمسيحيّ بأن يتسلّم مسؤوليّة هذا البعد أو ذاك من أبعاد الرسالة.

 

على مثال المسيح

 

تحوي حياة يسوع كلّ عناصر الرسالة.  فنحن نلاحظ لديه، من الأناجيل، الصمت والعمل والصلاة والحوار والإعلان. ورسالته لا تنفصل عن عمله. إنّه لا يعلن الله وملكوته بالكلام وحسب، بل بالأفعال الّتي يقوم بها. إنّه يتحمّل المعارضة والفشل والموت؛ وانتصاره تمّ بفضل بذله لحياته. فكلّ ما لديه يخدم الوحي والخلاص (راجع المرجع السابق رقم 6-12). وعلى المسيحيّين أن يفعلوا كذلك: «إذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضاً عَرَف النَّاسُ جَميعاً أَنَّكُم تَلاميذي» (يوحنّا 13: 35).

 

الكنيسة الأولى

 

يقدّم العهد الجديد هو أيضًا صورةً مختلفة وبنيويّة عن الرسالة. فهناك أعدادٌ كثيرة من الخدمات والوظائف الّتي تستند إلى مواهب متنوّعة (راجع 1 كورنثوس 12: 28- 30؛ أفسس 4: 11- 25؛ رومة 12: 6- 8).ويبيّن بولس نفسه فرادة دعوته النبويّة حين يقول: «فإِنَّ المسيحَ لم يُرسِلْني لأَعَمِّد، بل لأُبَشِّر، غَيرَ مُعَوِّلٍ على حِكمَةِ الكَلام لِئَلاَّ يَبطُلَ صَليبُ المَسيح» (1 كور 1: 17).

 

وهكذا نجد إلى جانب الرسل والأنبياء والإنجيليّين أشخاصًا آخرين مدعوّين إلى أعمالٍ جماعيّة وإلى مساعدة المتألّمين. فهناك رسالة العائلات والرجال والنساء والأطفال؛ وهناك واجبات السادة والعبيد. على كلّ واحدٍ أن يشهد شهادةً خاصّة في قلب المجتمع. وتُعطي الرسالة الأولى لبطرس تعليماتٍ، لا تزال تدهشنا بآنيتها اليوم، للمسيحيّين الّذين يعيشون في الشتات. ويسمّي البابا يوحنّا بولس الثاني مقطعًا من هذه الرسالة: «القاعدة الذهبيّة» وهو المقطع الّذي يتناول علاقة المسيحيّين مع المواطنين من الديانات الأخرى: «بل قدِّسوا الرَّبَّ المَسيحَ في قُلوِبكم. وكونوا دائِمًا مُستَعِدِّينَ لأَن تَرُدُّوا على مَن يَطلُبُ مِنكم دَليلَ ما أَنتم علَيه مِنَ الرَّجاء، ولكِن لِيَكُنْ ذلك بِوَداعَةٍ ووَقار، وليَكُنْ ضَميرُكم صالِحًا، فإِذا قالَ بَعضُهم إِنَّكم فاعِلو شرّ، يَخْزى الَّذينَ عابوا حُسْنَ سِيرَتِكم في المسيح» (1 بطرس 3: 15-16).

 

مرسلون مثاليّون

 

من بين الأمثلة الكثيرة في تاريخ الرسالة المسيحيّة، لدينا قواعد القدّيس فرنسيس لإخوته «وقد ألهمهم الله ليذهبوا إلى المسلمين»، في قوانينه الأولى سنة 1221، هناك سماتٌ مميّزة: «إنّها تستطيع أن تنظّم بطريقةٍ مزدوجة العلاقات الروحيّة بينهم. الأولى هي ألاّ يبادر في صراعٍ أو جدال، بل أن يقرّوا بأنّهم يخضعون حبًّا لله لكلّ كائنٍ بشريّ، ويشهدون بأنّهم مسيحيّون. الطريقة الثانية هي ما يلي: أن يُعلنوا كلمة الله حين يرون أنّ هذا يسرّ الله» (François d’Assises, Regula non Bullata XVI : Fontes Franciscani, Assises 1995, p. 198 ss.). فقد عاش عصرنا خبرة شارل دو فوكو، خصوصًا في العالم الإسلاميّ، وهو الّذي مارس رسالة موقف التواضع والصمت في اتّحادٍ مع الله وفي شراكةٍ مع الفقراء، وبروح أخوّةٍ شاملة.

 

احترام الحرّيّة

 

إنّ الرسالة موجّهة دومًا إلى الناس بملء احترام حرّيّتتهم. وقد عبّر الفاتيكاني الثاني عن ضرورة وإلحاح التعريف بالمسيح في نور العالم «بشجاعة الرسل حتّى بذل الحياة إن تطلّب الأمر» (الفاتيكاني الثاني، الحرّيّة الدينيّة، الرقم 14)، ولكنّه أكّد في الآن نفسه على الحاجة إلى دعم واحترام الحرّيّة الحقيقيّة للأشخاص الآخرين، ورفض أيّ نوعٍ من الضغط، خصوصًا في المجال الدينيّ.«يجب السعي إلى الحرّيّة بحسب الطريقة اللائقة للشخص البشريّ وطبيعته الاجتماعيّة، أي في حرّيّة البحث من خلال التعليم والتربية والتبادل والحوار، الّتي يعرض الناس بفضلها الواحد للآخر الحقيقة الّتي وجدوها أو يعتقدون أنّهم وجدوها، كي يتساعدوا في التفتيش عن الحقيقة. وحين يعرفون الحقيقة يلتزمون بها شخصيًّا وبرضى» (المرجع السابق، رقم 3).

 

«علينا أن نمتنع دومًا، في نشر الإيمان وإدخال الممارسات الدينيّة، عن كلّ ممارسةٍ لها طابع العنف أو الاقناع غير الشريف وغير الوفيّ، خصوصًا تجاه الأشخاص عديمي الثقافة او الفقراء. ويجب اعتبار هذا النوع من السلوك استغلالًا لحقوق الشخص وتعدّيًّا على حقوق الآخرين» (المرجع السابق الرقم 4).

 

احترام الشخص

 

على احترام كلّ شخصٍ أن يكون سمة النشاط الرسوليّ في عالم اليوم (راجع بولس السادس، رسالة عامّة، في كنيسة المسيح، 1964؛ إرشاد رسولي، إعلان الإنجيل، 8 تشرين الثاني (ديسمبر) 1975، رقم 79-80؛ يوحنّا بولس الثاني، رسالة عامّة، فادي الإنسان، رقم 12). «الإنسان هو الطريق الأوّل الّذي ينبغي للكنيسة أن تسلكه في رسالتها» (المرجع نفسه رقم 14).

 

على هذه القيم، الّتي تعلّمتها الكنيسة من معلّمها المسيح، أن تقود المسيحيّين إلى أن يحبّوا ويقدّروا كلّ ما هو صالحٌ في ثقافة الآخر وجهده الدينيّ. «يجب احترام كل ما حقّقه الروح القدس في الآخر، هذا الروح الّذي يهبّ حيث يشاء» (المرجع السابق رقم 12؛ راجع بولس السادس، إرشاد رسولي، إعلان الإنجيل، 8 تشرين الثاني (ديسمبر) 1975، رقم 79). فالرسالة المسيحيّة لا تستطيع قطّ أن تنفصل عن محبّة الآخر واحترامه، وهذا ما يجعل الحوار في الرسالة مهمٌّ بالنسبة إلينا نحن المسيحيّين.

 

 

2- الحوار

 

أ- الأسس

 

لا يُبنى الحوار انطلاقًا ممّا هو مناسب في كلّ حالة، بل انطلاقًا من الأسس العقليّة الّتي تكوّنت من الخبرة والتفكير وحتّى من الصعوبات.

التحدّيّات الفرديّة والاجتماعيّة

إنّ الكنيسة تنفتح على الحوار لتظلّ أمينةً للإنسانيّة. فكلّ شخصٍ وكلّ تجمّعٍ بشريّ تُحيّيه الرغبة والحاجة إلى اعتباره شخصًا مسؤولًا والتصرّف بموجب ذلك، سواءٌ كان حين نحتاج إلى أن ننال شيئًا من الآخر أو خصوصًا حين نعي أنّنا نملك شيئًا يستحقّ إيصاله. وكما تعبّر العلوم الإنسانيّة بإلحاح، يختبر الإنسان في الحوار بين الأشخاص محدوديّاته، ويختبر في الآن نفسه فرصة تخطّيها. إنّه يكتشف أنّه لا يملك الحقيقة تمامًا ولا كليّةً، ولكنّه يستطيع مع الآخر الاقتراب منها بثقة. فالتحقّق المتبادل، وتحسين الواحد من خلال الآخر، والمشاركة الأخويّة بالكفاءات الخاصّة، تقود إلى نضجٍ أشدّ يجعل جماعة العلاقة التبادليّة تنمو. وفي مسار التبادل هذا، من شأن الخبرات والمفاهيم الدينيّة أن تتنقّى وتغتني. فديناميكيّة العلاقات البشريّة هذه تدعونا دومًا، نحن المسيحيّين، إلى الاصغاء وفهم ما يمكن أن يوصله إلينا أشخاصٌ من دياناتٍ أخرى بحيث نستفيد من هبات الله.

 

إنّ التطوّر الاجتماعيّ الثقافيّ مع توتّراته ومشكلاته الّتي لا بدّ منها، والتبعيّة المتبادلة المتنامية في جميع مجالات الحياة داخل المجتمع، والتفضيلات البشريّة مع كلّ ما تفرضه لبناء السلام، تجعل تبنّي نظام حوارٍ في العلاقات البشريّة أمرًا يزداد إلحاحًا يومًا بعد يوم.

 

الإيمان بالله الآب

 

لا شكّ في أنّ الكنيسة تشعر قبل كلّ شيء بأنّها مدعوّة إلى الحوار على أساس إيمانها. ففي السرّ الثالوثيّ، يجعلنا الوحي نرى حياةً جماعيّة من التبادل. فنحن نتأمّل في الله الآب حبًّا منتبهًا لا حدود له في الزمان والمكان. فالكون وتاريخه مملوءان بعطاياه. لا شكّ في أنّ الشرّ يظهر عَرَضًا، ولكنّ قوّة النعمة الّتي تُنهِض وتخلّص تظلّ حاضرةً في مصير كلّ شخصٍ وكلّ شعب.

 

إنّ رسالة الكنيسة هي أن تكشف وتبيّن وتُظهر كلّ الغنى الّذي أخفاه الآب في الخليقة وفي التاريخ، لا لتحتفل بمجد الله في ليتورجيّاتها وحسب، بل أيضًا لتجعل عطايا الله تنتقل بين جميع البشر.

المسيح يرتبط بكلّ إنسان

نحن ننال في الله الابن الكلمة والحكمة الّتي وُجِدَ بها كلّ شيءٍ قبل الزمن. فالمسيح هو الكلمة الّتي تنير كلّ كائنٍ بشريّ، لأنّ به يتّضح سرّ الله وسرّ الإنسان في آنٍ واحد (راجع يوحنّا بولس الثاني، رسالة عامّة، فادي الإنسان، 4 آذار (مارس) 1979، رقم 8، 10-11، 13). إنّه المخلّص الحاضر بنعمته في كلّ لقاءٍ بشريّ ليحرّرنا من أنانيّتنا، ويجعلنا نحبّ بعضنا بعضًا كما أحبّنا. كتب البابا يوحنّا بولس الثاني: «إنّ هذا الرجل هو طريق الإنجيل، طريقٌ يظهر بطريقةٍ ما أساس كلّ الطرق الّتي يجب على الكنيسة أن تسلكها، لأنّ الإنسان – كلّ إنسانٍ بدون استثناء- قد افتُدِيَ بالمسيح، لأنّ المسيح متّحدٌ بطريقةٍ ما بالإنسان، وبكلّ إنسانٍ بدون أيّ استثناء، حتّى وإن لم يعِ هذا الإنسان ذلك: المسيح، الّذي مات وقام لأجل الجميع، يقدّم للإنسان – لكلّ إنسان ولكلّ الناس- ... نورًا وقوّةً  كي يجعله قادرًا على تلبية دعوته السامية» (المرجع السابق، رقم 14).

 

عمل الروح القدس

 

في الله الروح القدس، يجعلنا الإيمان ندرك هذه القوّة الحيويّة، هذا المحرّك وهذه القدرة على التجدّد المستمرّ (راجع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائديّ في الكنيسة، رقم 4)، ويعمل في عمق أعماق الضمير، ويرافق طريق القلوب السرّيّ الّتي تفتّش عن الحقيقة (راجع الفاتيكاني الثاني، دستور راعويّ في الكنيسة في العالم المعاصر، رقم 22). ويعمل هذا الروح أيضًا «خارج الحدود المرئيّة للجسد السرّيّ (يوحنّا بولس الثاني، رسالة عامّة فادي الإنسان، 4 آذار (مارس) 1979، رقم 6؛ المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة، رقم 16؛ دستور راعوي في الكنيسة في العالم المعاصر، رقم 22؛ مرسوم في نشاط الكنيسة الرسوليّ، رقم 15). فالروح يستبق طريق الكنيسة ويرافقها. والكنيسة تعرف أنّها نالت رسالة التعرّف إلى علامات حضوره، واتّباعه إلى حيث يقودها، وخدمته أخيرًا من خلال تعاونٍ متواضعٍ ولطيف.

 

تحقيق ملكوت الله

 

إنّ ملكوت الله هو الغاية النهائيّة لكلّ البشر. والكنيسة «بذاره وبدايته»، (الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة، رقم 5، 9)، تبذل جهدها كي تتقدّم على هذا الطريق نحو الملكوت وتكون في الطليعة، وتجعل البشريّة كلّها تتقدّم في الاتجاه نفسه. وتشمل هذه الرسالة أيضًا صراعًا ضدّ الشرّ والخطيئة ونصرًا، ابتداءً من ذاتها وإدراجًا لسرّ الصليب. بهذه الطريقة تحضّر الكنيسة الملكوت حتّى يصل جميع الأخوة والأخوات إلى الشراكة الكاملة في الله. فالمسيح بالنسبة إلى الكنيسة والعالم ضمانٌ بأنّ نهاية الأزمنة قد بدأت، وأنّ نهاية التاريخ تحدّدت (راجع المرجع نفسه، رقم 48)، وبذلك تملك الكنيسة القدرة، ولها رسالة، بأن تلتزم في العمل على إتمام كلّ شيءٍ في المسيح.

 

بذار الكلمة

 

لقد دفعت هذه النظرة آباء المجمع الفاتيكاني الثاني إلى أن يروا في التقاليد الدينيّة غير المسيحيّة «ما هو حقيقيّ وصالح» (الفاتيكاني الثاني مرسوم في التكوين الكهنوتيّ، رقم 16)، «وعناصر دينيّة وإنسانيّة تستحقّ التقدير(الفاتيكاني الثاني، دستور راعوي في الكنيسة في العالم المعاصر، رقم 92).

«بذار الكلمة» (الفاتيكاني الثاني مرسوم في نشاط الكنيسة الإرساليّ، رقم 11، 15)، «أشعّة حقيقة تنير جميع البشر» (الفاتيكاني الثاني، تصريح عن علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحيّة، رقم 2). وبحسب إرشاداتٍ واضحة للمجمع، فإنّ هذه القيم موجودة في حالة بذارٍ في تقاليد الإنسانيّة الكبيرة. لذلك ينبغي الانتباه إليها واحترامها في الحوار ( المرجع نفسه رقم 2، 3؛ مرسوم في نشاط الكنيسة الإرساليّ رقم 11)، الّذي لا يشمل العناصر المشتركة بطريقةٍ أو بأخرى وحسب، بل أيضًا العناصر المتناقضة.

 

حوارٌ صادقٌ وصبور

 

وأراد المجمع الفاتيكاني الثاني أيضًا أن يشير في هذا الموضوع إلى مهامّ عمليّة:

« ولكي يستطيعوا أن يُؤدوا شهادة المسيح هذه تأديةً مُثمرةً، يجبُ أن ينضمّوا إلى هؤلاء البشر بالتقدير والمحبة، مُدركين أنهم أعضاءٌ في مجموعةِ البشر التي يعيشون فيها، وأن يُسهِموا في الحياة الثقافية والاجتماعية بما في الحياة البشرية من شتّى أنواعِ التعامل والتداول، وعليهم أن يألَفوا تقاليدَ القوم الوطنية والدينية، وأن يكتشفوا بغبطةٍ واحترام بذورَ الكلمة المُستترة فيها، وعليهم أن يتنبّهوا في الوقتِ نفسِه للانقلاب العميق الذي يجري بين الأمم، وأن يسعوا جُهدَهم في أن يتحوّل أبناءُ هذا العصر عن الأمور الإلهية بسبب شدّة انقيادهم للعلوم ولتكنولوجيا العالم الحديث، بل أن يكونوا بالأحرى أشدَّ تيقّظاً في تطلّبِ الحقيقة والمحبة اللتين من وحي الله تطلّباً أشدّ حرارة واضطراماً. وكما سبرَ المسيحُ نفسُه قلبَ البشر وحوّلهم بالحوار الإنساني، الحقيقي الإنسانية، إلى النور الإلهي، كذلك يجب على تلاميذِه، وقد أُشبعوا من روحِ المسيح، أن يعرفوا الناسَ الذين يعيشون فيما بينهم، وأن يُحادثوهم، لكي يقفوا أيضاً، بالحوار الصادق والصبور، على الكُنوزِ التي وزّعها الله في جودِه، على الأمم، ويجب عليه في الوقت نفسِه أن يعملوا على إنارةِ هذه الكنوز بنور الإنجيل، وتحريرها، وإخضاعِها لسُلطان اللهِ المُخلّص» (مرسوم في نشاط الكنيسة الإرساليّ، رقم 11؛ را. رقم 41؛ قرار مجمعي في رسالة العلمانيّين، رقم 14، 19 إلخ).

 

ب- أنماط الحوار

 

أنماط عدّة

بيّنت خبرت السنوات الأخيرة طرائق عدّة لممارسة الحوار. وما نشير إليها هنا هي الأساسيّة والخاصّة وتُمارس كلّ على حدا بالارتباط مع الطرائق الأخرى.

 

حوار الحياة

 

الحوار هو خصوصًا طريقة سلوك وروح يلهمه. وينتمي إليه الانتباه والتقدير والانفتاح على الآخر، الّذي نترك له فسحةً لهويّته الشخصيّة وأنماط تعبيره وقيمه. هذا الحوار مباشر وأسلوب لا بدّ منه من أجل اكتمال الرسالة المسيحيّة وكلّ مركّبٍ من مركّباتها، سواء كان الحضور البسيط أو تقديم الخدمات أو الإعلان المباشر (القانون الكنسي، القانون 787، بند 1، 1983). فالرسالة الّتي ليست مشبعة بروح الحوار هذا تناقض متطلّبات أنسنيّةٍ أصيلة ومتطلّبات الإنجيل.

 

حوار الحياة اليوميّة

 

كلّ مسيحيّ مدعوّ باسم دعوته، لكونه إنسانًا ولكونه كائنًا روحيًّا، إلى أن يكون في حوارٍ بالحياة اليوميّة، سواء عاش في حالة الأكثريّة أو الأقلّيّة. عليه أن يمهر بروح الإنجيل كلّ أماكن الحياة والعمل: المضمار الأسريّ والاجتماعيّ والتربويّ والفنّيّ والعلميّ والسياسيّ، إلخ. بهذه الطريقة يندمج الحوار في الديناميكيّة الكبيرة لرسالة الكنيسة.

 

حوار العمل

 

مستوى آخر للحوار هو مستوى العمل والتعاون في أهدافٍ إنسانيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة تصبو إلى تحرير الإنسان وتفضيله. ويتمّ هذا غالبًا في منظّماتٍ محلّيّة ووطنيّة وعالميّة، حيث يأخذ المسيحيّون وأبناء الديانات الأخرى في عين الاعتبار معًا مشكلات العالم.

 

مضمار التعاون

 

يستطيع مضمار التعاون أن يمتدّ أكثر. فالمجمع الفاتيكاني الثاني يعلن بوجهٍ خاصٍّ عمّا يخصّ المسلمين: «طرح الماضي جانبًا ... والالتزام معًا لصالح حماية العدالة الاجتماعيّة وتفضيلها، وكذلك الجمال الأخلاقيّ من دون أن ننسى السلام والحرّيّة لجميع الناس» (تصريح عن علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحيّة، رقم 3؛ راجع مرسوم فس نشاط الكنيسة الإرساليّ رقم 11-12، 15، 21، إلخ).

وعبّر بولس السادس (في كنيسة المسيح، 6 آب (أغسطس) 1964) ويوحنّا بولس الثاني عن الاتّجاه نفسه في مقابلاتٍ عدّة مع مسؤولي وممثّلي مختلف الأديان. فالمشكلات الكبيرة الّتي تعانيها البشريّة تحثّ المسيحيّين على أن يلتزموا في التعاون مع مَن يؤمنون بطريقةٍ مختلفة، باسم إيمان كلّ واحدٍ.

 

حوار المتخصّصين

 

إنّ الحوار على مستوى المتخصّصين هامّ بوجهٍ خاص، سواء لتقديم الإرث الدينيّ لكلّ واحدٍ وتعميقه وإغنائه، أو للمساعدة في آخر الأمر في حلّ المشكلات المطروحة على البشريّة في مسار تاريخها بحسب وسائل هذا الحوار.

إنّ حوارًا كهذا ينطلق عادةً من نظرة المحاور إلى العالم وممارسته لديانةٍ تدعوه إلى العمل. ويسهل هذا الحوار في مجتمعٍ تعدّديٍّ تتواجد فيه تقاليد وإيديولوجيّات دينيّة مختلفة أو تتجابه في بعض الأحيان.

 

الفهم المتبادل

 

في أثناء هذه الحوارات يتعلّم المحاورون قيمهم الروحيّة ومعاييرهم الثقافيّة المتبادلة ويقدّروها، ويشجّعون على الشراكة بين الناس والأخوّة. فبالنسبة إلى المسيحيّ، المسألة هي التعاون في الآن نفسه على تحوّل الثقافات باتّجاه الإنجيل (راجع بولس السادس، إرشاد رسولي، إعلان الإنجيل، 8 تشرين الثاني (ديسمبر) 1975، رقم 18-20، 63).

 

حوار الخبرة الدينيّة

 

وعلى مستوى أعمق، فإنّ البشر المتأصّلون في تقليدهم يستطيعون أيضًا أن يتبادلوا خبراتهم في الصلاة والتأمّل، في الإيمان والعمل، كما في أنماط التعبير وطرق البحث عن المطلق. إنّ هذا النوع من الحوار يجلب غنًى متبادلًا وتعاونًا خصبًا في دعم تأكيد القيم والإيديولوجيّات الأسمى في روحانيّة الإنسان. إنّ هذا الحوار يحثّ بشكلٍ طبيعيٍّ على الإيصال المتبادل لأسس إيمان كلّ واحدٍ، ولا يتوقّف حين يواجه مفارقات عميقة في بعض الأحيان، لأنّه بتواضعٍ ورجاءٍ يزيد ثقته بالله «الّذي هو أكبر من قلبنا» (1 يوحنّا 3: 20). إنّها فرصة كي يقدّم المسيحيّون للآخرين إمكانيّة أن يختبروا قيم الإنجيل بطريقةٍ وجوديّة.

 

 

3- حوار ورسالة

 

العلاقات بين الحوار والرسالة

إنّ العلاقات بين الجوار والرسالة متعدّدة. وسوف نتوقّف عند بعض الأبعاد الّتي لها في أيّامنا أهمّيّة أشد بسبب التحدّيات والمشكلات المطروحة، أو بسبب المواقف المطلوبة.

 

آ- رسالة واهتداء

 

دعوة إلى الاهتداء

 

إنّ غاية الإعلان الرسوليّ في نظر الفاتيكاني الثاني هي الاهتداء «كي يؤمن غير المسيحيّين، وقد فتح الروح القدس قلوبهم، ويهتدون بحرّيّةٍ إلى الربّ ويتعلّقون بوفاءٍ به ...» (مرسوم في نشاط الكنيسة الإرساليّ، 13). في الحوار بين مؤمنين بإيمان مختلف، لا يمكننا أن نتفادى الانتباه إلى المسيرة الروحيّة نحو الاهتداء.

إنّ الاهتداء في اللغة الكتابيّة المسيحيّة هو العودة بقلبٍ متواضعٍ ونادمٍ إلى الله، مع الرغبة بإخضاع الحياة له خضوعًا تامًّا (راجع مرسوم في نشاط الكنيسة الإرساليّ، 13). والجميع مدعوّون على الدوام إلى هذا الاهتداء. ومن هذه المسيرة يمكن أن يولد قرار بترك الموقف الروحيّ أو الدينيّ السابق لاعتناق موقفٍ آخر. وهكذا، على سبيل المثال، فإنّ القلب قد ينفتح من حبٍّ خاصٍّ إلى محبّةٍ شاملة.

كلّ دعوةٍ أصيلةٍ من الله يرافقها دومًا تخطٍّ للذات. ما من حياةٍ جديدة بدون المرور بالموت كما هو حال ديناميكيّة السرّ الفصحيّ (راجع دستور راعوي في الكنيسة في عالم اليوم، 22). فالاهتداء «هو عمل النعمة الّتي يستعيد به الإنسان ذاته» (بيان في الحرّيّة الدينيّة، 12).

 

احترام الضمائر

 

من مسار الاهتداء هذا تنبع الشريعة السامية للضمير. لا ينبغي لأحد «أن يُكرَه على العمل خلافًا لضميره، ولا ينبغي منعه أيضًا عن العمل بحسب ضميره، خصوصًا في المسألة الدينيّة» (بيان في الحرّيّة الدينيّة، 3).

الروح المحيي

إنّ العامل الأساسيّ في الاهتداء، بحسب النظرة المسيحيّة، ليس الإنسان بال الروح القدس. «فهو الّذي يحثّ كلّ واحدٍ على إعلان الإنجيل، وهو يجعلنا نقبل في عمق أعماق ضمائرنا كلمة الخلاص ونفهمها» (إعلان الإنجيل، رقم 75). وهو الّذي يقود حركة القلوب ويولّد فعل الإيمان بالربّ يسوع (راجع 1 كورنثُس 2: 4). فالمسيحيّ ليس إلّا أداةً للربّ ومعاونًا له (المرجع السابق 3: 9).

 

رغبة التقدّم المتبادل

 

من الطبيعي أن يغذّي المسيحيّ، في قلب الحوار، رغبة مشاركة إخوته من الديانات المختلفة باختباره للمسيح (أعمال الرسل 26: 29). ومن الطبيعيّ أيضًا أن يشعر الآخر برغبةٍ مشابهة تجاه المسيحيّ.

 

ب- الحوار من أجل بناء الملكوت

 

التعاون على المستوى الإلهيّ

 

إنّ الله يتابع مصالحته مع البشر بالروح القدس. وتؤمن الكنيسة بما وعدها المسيح به: أن يقودها الروح القدس عبر التاريخ نحو ملء الحقيقة (راجع يوحنّا 16: 13). وإذ تتقوّى بهذا الوعد  تنطلق للقاء الناس والشعوب وثقافاتهم وهي تعي وعيًا كاملًا أنّ كلّ جماعةٍ بشريّة تمتلك بذار الصلاح والحقيقة، وأنّ لله مشروع محبّةٍ لكلّ شعب (راجع أعمال الرسل 17: 26-27).

فالكنيسة ترغب إذًا بالتعاون مع الجميع من أجل تحقيق هذا المشروع، فتقدّر كلّ غنى حكمة الله اللامتناهية ومتعدّدة الأشكال، وتفتح الطريق إلى تبشير الثقافات (إعلان الإنجيل، رقم 18-20).

 

تثبيت السلام الشامل

 

«كما نتّجه بأفكارنا نحو جميع الّذين يعترفون بوجود الله، وتزخر تقاليدهم بعناصر ثمينة دينيّة وإنسانيّة، آملين أن يقودنا جميعًا الحوار والثقة إلى قبول نداءات روح الله والمسارعة إلى تلبيتها. أمّا فيما يتعلّق بنا نحن، فإنّ رغبتنا في هذا الحوار - الذي لا رائد له سوى حبّ الحقيقة، ويتّسم أيضاً بما ينبغي من الحذر - تجعلنا لا نستبعد عنه أحدًا لا الّذين يحترمون القيم الإنسانيّة العالميّة، وإن لم يعترفوا بصانعها، ولا الّذين يقاومون الكنيسة ويضطهدونها بشتّى الأساليب. وبما أنّ الله الآب هو مبدأ وغاية البشر أجمعين، فكلّنا مدعوّون لأن نكون إخوة. وبما أنّنا مهيّأون لنفس الدعوة الإلهيّة، فبوسعنا أيضًا، بل يتحتّم علينا، أن نعمل معًا بدون عنف وبسلامة النيّة، لبناء العالم في جوّ من السلام الحقيقيّ» (الفاتيكاني الثاني، الكنيسة في العالم المعاصر، رقم 92؛ راجع أيضًا رسالة بولس السادس في يوم السلام العالميّ).

 

الحوار منبع رجاء

 

هكذا يصير الحوار منبع رجاءٍ وعامل شراكةٍ في تحوّلٍ متبادَل. فالروح القدس هو الّذي يقود تحقيق مشروع الله في تاريخ الأفراد والجنس البشريّ حتّى يتجمّع أبناء الله المشتّتون بالخطيئة داخل إطار الوحدة (راجع يوحنّا 11: 52).

 

صبر الله

 

الله وحده يعرف الوقت. ولا شيء يعسر عليه، وروحه السرّيّة الصامت يفتح قلوب البشر والشعوب على طريق الحوار لتخطّي الاختلافات العرقيّة والاجتماعيّة والدينيّة من أجل الاغتناء المتبادَل.

هذا هو إذًا زمن صبر الله الّذي تعمل فيه الكنيسة وكلّ جماعةٍ مسيحيّة، لأنّه ما من شخصٍ يستطيع أن يجبر الله على أن يعمل أسرّع من السرعة الّتي نوى أن يعمل بها.

 

نتمنّى أن تنشر الكنيسة رسالةً مسيحيّة، وهي حاضرة لإنسانيّة الألف الثالثة، وأن تنتظر بصبرٍ نموّ البذار المرميّة بالدموع والثقة (راجع إرميا 5: 7-8؛ مرقس 4: 26-30).

هذا المقال مختصر من:

 

*(Dokument des päpstlichen Sekretariats für die Nichtchristen. Dialog und Mission. Gedanken und Weisungen über die Haltung der Kirche gegenüber den Anhängern anderer Religionen, 10. Juni 1984: AAS 76 (1984) 816-828. Wiedergeben in Hrsg. CIBEDO e.V., Die offiziellen Dokumente der katholischen Kirche zum Dialog mit dem Islam. (Regensburg: Pustet, 2009), 279-293. Die einleitenden Ausführungen des Dokuments sind hier nicht wiedergegeben. 

 

 

 

وجهة النظر الإسلاميّة

 

1- فريضة الرسالة

 

بالنسبة إلى ديانة، أليس الامتناع عن هدف هداية الّذين لم ينضمّوا بعدُ إلى مملكتها هو امتناع عن دعوتها الشاملة، ونكران وخيانة لواجب الرسالة؟

 إنّها بالضبط لحظة إزالة الالتباس والإلحاح، كي نكون صادقين تمامًا وفعّالين، على التطرّف الآخر الواجب تفاديه، وهو المبالغة في المراعاة والتفاوض. لا ينبغي لأحدٍ، سواء كان مؤمنًا أو ملحدًا، أن يغشّ في إيمانه أو أفكاره. إنّها فريضة شريعة التقدّم والسير غير العرَضيّ نحو الحقيقة. حين تكون القناعات صافية وتُعاش بعمق لا يمكنها المساومة. فالمسألة ليست إذًا الانتقال من تطرّفٍ إلى آخر، أو البحث مهما كلّف الأمر عن حلولٍ مُرضيَة، وبتوفيقيّةٍ ملصوقةٍ لصقًاتثير في آخر الأمر لغطًا، وذلك بدفعٍ من روح مصالحةٍ خالٍ من الإرغام على التطوّر من الداخل. فالحوار في إطارٍ معيّنٍ يهمّنا ليس سياسة، أي فنّ التسوية. إنّه على مستوًى أعلى. إنّه يفترض الصدق الكامل، ويتطلّب من كلّ واحدٍ أن يكون ذاته تمامًا بدون عنفٍ ولا تسوية، كي يكون هذا الحوار مثمرًا.

 

 بهذه الطريقة نجد ثانيةً كلّ ما تفرضه الرسالة، ولكن في شكلً تنقّى من شوائب الالتباس والدعاية التبشيريّة المولّدة للعمى. فالرسالة في هذا المنظور تصير في أساسها انفتاحًا منتبهًا إلى الآخر، وسعيًا دائمًا وراء الحقّ من خلال التعمّق والاستبطان الدائمَين لقيم الإيمان من أجل الشهادة في آخر الأمر. وتسمّى هذه الرسالة باللغة العربيّة الجهاد. قد تثير الكلمة اندهاشًا، خصوصًا لدى مَن لا تزال هذه الكلمة تردّد صدى جميع الحروب المقدّسة في الماضي والحاضر. لأجل هؤلاء نحدّ أنّ الجهاد لغويًّا وأساسيًّا ليس حربًا مهما كانت مقدَّسة. فالعربيّ لا يفتقر إلى كلماتٍ ليشير بها إلى جميع أنماط المعارك. وإذا أراد القرآن أن يقول حربًا، فأمامه حيرة الاختيار بين التعابير الغنيّة والجميلة الواردة في أشعار الجاهليّة، وكلّها مكرّسة للإشادة بأيّام العرب الخالدة، الأيّام الّتي كان هؤلاء يتقاتلون كما يحلو لهم.

 

الجهاد إذًا أمر آخر. إنّه أساسًا جهد جهيد في سبيل الله، ويقول التقليد إنّ أنقى أشكاله وأكثرها مأساويّةً أيضًا وأخصبها في آنٍ واحدٍ هو الجهاد الأكبر، أي الّذي يتمّ في ساحة النفس المغلقة. هذا يعني أنّ أفضل أشكال الرسالة هو شهادة نفسٍ ربحت حرب الكمال الأخلاقيّ. إنّ هذا النوع من الرسالة، الّذي يتمّ بالشهادة، هو النوع الوحيد الخصب، والوحيد الّذي يلائم عصرنا. وهو يستطيع أن يستغني عن الدعية التبشيريّة. ألم يتمّ تذكير النبيّ شخصيًّا بالقرآن بأنّه لا يستطيع إهداء الناس إلى الله، وأنّ الله يهدي إليه مَن يشاء (سورة القصص، 56)؟ هذا يعني أنّ واجبنا الرسوليّ هو الشهادة، والله هو الهادي. «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» (سورة البقرة، 143). لذلك ليس مستحيلًا تطوير لاهوتٍ إسلاميٍّ للرسالة يتوافق مع الاحترام التامّ للآخر. ولا شكّ في أنّ هذا ليس مستحيلًا لا تجاه المسيحيّة – وهي ديانة الشهادة بالاستشهاد – ولا تجاه مجمل الديانات الأخرى. حينها لا يصير التعايش ممكنًا وحسب بل مثمرًا. حين يتفادى واجب الرسالة تطرّفَي التباس الدعاية التبشيريّة والتسوية الإرضائيّة، فإنّه يبقى كاملًا أيضًا. إنّه يتمسّك فقط بأنبل الأشكال وأصعبها، وهو الجهاد المستبطَن، ويفتح الطريق أمام تنافسٍ شريفٍ في طريق الصلاح. ولكي لا يقسو هذا الجهاد المستبطَن ويصير انطواءً صوفيًّا أنانيًّا، أو ساكنًا على ذاته، أو لا يلين تجاه راحة ضميرٍ متساهلة وحتّى لا مبالاةٍ وديعة، عليه أن يبقى في الآن نفسه شهادةً واستعدادًا وسعيًا وقلقًا. وهنا يكون دور الحوار حاسمًا. فبخلق جوٍّ نظيفٍ للتبادل والتوتّر الفكريّ والروحيّ، سيساهم الحوار في تعميقٍ مستمرٍّ ومتبادل لقيم الإيمان. فالحركة تحلّ محلّ الخمول.

 

1- غاية الحوار ووظيفته

 

الغاية

 

قد يعترض بعضهم ويقول: إذا أزيلت الصعوبات المُشار إليها وتحقّقت الشروط المحدَّدة، هل يظلّ للحوار معنًى أو موضوعًا؟

بكلّ تأكيد. إنّه يصير جذريًّا تعاونًا مجّانيًّا وبدون خلفيّاتٍ لخدمة الله، أي لخدمة الصلاح والحقيقة. ففي أجواءٍ مريحة لا التباس فيها، منقّاة وهادئة، يستطيع الحوار حينها أن يلتزم لصالح الجميع بدون استثناء ولا استبعاد.

علينا ألّا نكون واهمين هنا: إذا لم يكن الحوار مثمرًا للجميع، وإذا لم يجد كلّ محاورٍ مكانه فيه، لن يكون هناك حوارٌ وسرعان ما سينتهي. فإذا شعرت جماعةٌ معيّنة بأنّها مهدّدة، فإنّها تضع حدودًا جمركيّة وتنطوي في أسلوب تفكيرٍ غايته الحماية. فإذا لم يؤمّن هذا الأسلوب في آخر المطاف نتائج أفضل، كما هو حال الحماية الاقتصاديّة، فإنّه سيفرض نفسه على كلّ حال. ففي حال الهلاك لا نفكّر بالتخلّي عن العزلة. فغريزة الحماية الأولى تكون حينها الأقوى.

وبالعكس، فإنّ الأفكار تدور بسهولةٍ أشدّ في أجواء الثقة، وتؤمّن بمخزونها وطرحها غنًى للجميع. لذلك فإنّ الغاية الأولى الّتي ينبغي للحوار أن يضعها هي هدم الحواجز وزيادة الصلاح في العالم من خلال التبادل الحرّ للأفكار. فجميع العائلات البشريّة، بدون تمييزٍ في توجّهاتها الماديّة أو الروحيّة، لها مصلحةٌ في مواجهة حلول جميع المشكلات الكبيرة المطروحة علينا، الّتي تتحدّى أحيانًا معنى وجودنا نفسه. ولها أيضًا مصلحةٌ في ضمّ قواها قدر الإمكان. في الواقع، لا يصعب علينا أن نمدّ أيدينا من ذرانا، حتّى حين تكون منابع الاستلهام مختلفة أو متعارضة. فالتوحيد الثقافيّ المتصاعد، الّذي لعلّه أوضح ظاهرة في زماننا، يقرّب يومًا بعد يوم الناس والأماكن ويجعلهم على أرضٍ واحدة. فالمؤمنون وغير المؤمنين يتأمّلون غالبًا ومعًا في أكثر من مسألةٍ حرجة مطروحة في عصرنا. إنّهم يغنون بعضهم بعضًا باختلافاتهم المتبادلة.

 

الوظيفة

 

إذا لم تكن فضائل الحوار لا متناهية، وإذا لم تكن غايتها بدون حدود، فإنّ وظيفتها تبقى كاملة في جميع الحالات. إنّها هز الناسّ وتحريكهم ومنعهم من الغرق في قناعاتهم. لا شكّ في أنّه يحقّ لكلّ واحدٍ ألّا يشاركنا بوجه النظر هذه، ولكن ليس له مبرّرٌ كي يبدأ أوّلًا بأن يعي هذا بشكلٍ صحيح وأن يُخبَر بذلك بطريقةٍ مناسبة.

فقبل الكلام على الآخر، إذا لم نستطع في آخر الأمر أن نتحاور معه حول هذه النقطة أو تلك، علينا أقلّه أن نصغي إليه. فلنحدّد ذلك على مستوى المسلمين خصوصًا. فالأفكار المعروفة بأنهّا الأكثر خطورةً تستطيع أن تبدو أحيانًا أنّها الأكثر خلاصًا، أقلّه من خلال قدرتها الرائعة على الانتزاع. وطبعًا، شريطة أن تعمل كمحوّلٍ في ضميرٍ متيقّظ ومجهّزٍ بطريقةٍ مناسبة. وإلّا قد لا ينتج عنها غير الانهيار وعدم الفصل بدون ما يقابله، وبنية متآكلة. إنّ هذا الخطر حقيقيّ جدًّا في ما يخصّ حالة الإسلام حاليًّا، وتنبغي الإشارة إليه.

 

ولكن لا الإسلام ولا أيّ إيمانٍ آخر بالله لديه اختيارٌ آخر اليوم غير اختيار قبول المغامرة. فالعلم يجعل كلّ يومٍ حدود السرّ والكون تتراجع، ويطرح علينا أسئلة لا تستطيع الفلسفة ولا اللاهوت أن تقبلها من دون أن تُنكر ما يصنع أساس الإنسان وجوهره. إنّها تفرض على الجميع مزيدًا من التفكير، وتفرض على المؤمنين إعادة قراءةٍ للوحي تأوّنها إشكاليّةٌ جديدة. هل علينا الإشارة إلى أنّه لا يكمن للجواب أن يكون توافقًا بسيطًا وغامضًا كما كان الحال دومًا في الإسلام منذ أيّام النهضة؟ ومن هنا تأتي ضرورة الانفتاح بلا حدود والتواصل المتعدّد.

إنّ دراسةً كتابيّة جديدة لا تنكر بالضرورة غنى الماضي ومكتسباته الإيجابيّة ضروريّة. إنّها بحاجة إلى جوّ انفتاح وتبادل وتوتّر كي تتأوّن وتردّ على كلّ أنواع القلق. فحين نخلق هذا الجوّ الخصب من التوتّر، الّذي غاب عن الإسلام ويا للأسف طوال قرون، يكمن أن يكون دور الحوار هو إخراج المسلمين من رفاهيّتهم المزيّفة، وفتح قلوبهم وآذانهم ثانيةً على رسالة الله. لأنّه إذا كانت كلمة الله أبديّة، كما يؤمن كلّ مسلم، فهذا يعني بالضرورة أنّها وإن أُوحيَت في الزمان والمكان، فهي تسمو أيضًا على الزمانيّة والمكانيّة كي تكون دومًا وفي كلّ مكانٍ مسموعة وحاضرة وجديدة دومًا. فيجب إذًا ملاحظتها واستقبالها، لا بطريقةٍ ساكنة، بل كخلاصة تصوّرٍ ومخزون يتأوّنان باستمرار من خلال استجوابٍ يتكرّر على الدوام. إنّ هذا التطلّب ليس ثورويًّا بالضرورة. إنّه تطلّب عددٍ كبيرٍ من مفسّري الماضي الّذين افتتنوا بغنى الكلمة القرآنيّة ومعانيها، فحطّموا الحواجز الاعتياديّة للغة بتأثير دفعٍ قويٍّ للتصوّرات.

 

ومن هنا تأتي ضرورة الاصغاء إلى الله بآذان اليوم وباللحظة الحاضرة. فإعادة إطلاق دراسةٍ كتابيّة معاصرة، تجمع الحذر والجرأة في آنٍ واحد، وتحتكّ مباشرةً بقلق زماننا واضطراباته وتساؤلاته، هو إذًا الشرط الضروريّ والحتميّ كي لا يُطرَد الله من العالم، وكي يكون حاضرًا مرّةً أخرى في العمل البشريّ إنّ هذه الدراسة لا تنمو خارج جوّ الحوار مع الجميع، سواءٌ كانوا مؤمنين أو غير مؤمنين.

 

على هذه الدراسة أن تدمج بدون تعقيدٍ ولا خوف كلّ ما يمكنه أن يكون. لا شكّ في أنّ أخطار الأزمة والانحراف والضلال حقيقيّة، ولا ينبغي الاستخفاف بنتائجها. ولكن أليست الدعوة الطبيعيّة للديانة هي أن تكون دومًا في أزمة، أي في توتّرٍ وتخطٍّ؟ فالمؤمن لا يستطيع بجهده لفهم رسالة الله بشكلٍ صحيح ألّا يلتفت إلى المكتسبات، حتّى وإن كانت مؤقّتًا نهائيّة، من العلم الحديث في جميع مجالات العلوم الإنسانيّة والدقيقة. فالمسألة لا تُطرَح حينها بتعبير: إيمانٌ مستقيمٌ أو منحرف. هل وجدت الحقيقة الصرفة الصافية الواضحة ذات يوم؟ فالقرآن يقول لنا: « وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا» (سورة آل عمران، 103). أليس هذا الحبل في الآن نفسه حبل جرّ المركب أو خط توجيه؟ ويضيف التقليد: كلّ مَن يجتهد بصدقٍ ولا يصيب غايته ينال ثوابًا. باختصار، الخائفون وحدهم، الّذين يرفضون الحبل الّذي يجذبهم نحو الله ويفضّلون السكون والرفاهية والخمول عليه، يُحرمون من الثواب. فالثواب هو لمَن يكافح ويتساءل ويعيش إيمانه بصدقٍ وحرارة. فوظيفة الحوار مع الجميع هي بالضبط، في جميع الأحوال، إحياء إيماننا باستمرار، ومنعه من النوم، وجعلنا على الدوام في حالة الاجتهاد، أي التفكير والبحث.

هذا المقال مستل من:

 

*Mohammed Talbi , Etudes Arabes, (PISAI, Rome, 1995, pp. 197-207

Contact us

J. Prof. Dr. T. Specker,
Prof. Dr. Christian W. Troll,

Kolleg Sankt Georgen
Offenbacher Landstr. 224
D-60599 Frankfurt
Mail: fragen[ät]antwortenanmuslime.com

More about the Authors?